رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


العمالة الوافدة أم العمالة الهادمة؟

برزت للسطح بقوة مرة أخرى شؤون العمالة الأجنبية في دول الخليج العربي. هذه المرة ليس في الصحافة العالمية حيث بدأنا نقرأ مرارا وتكرارا تقارير وأخبارا غير حميدة وسلبية جدا عن شؤون العمالة الوافدة، ولكن أيضا ضمن برامج تلفزيونية ومقالات صحفية في الدول الخليجية ذاتها.
لم أشأ أن أنقل أو ألخّص لقرائي الكرام ما تكتبه الصحافة الغربية عن هذه المسألة المهمة جدا وقد أعرج عليها في المستقبل. ولكن علينا أن ندرك أن صاحب الدار عليه أن يهتم ببيته وأهله وإخوانه وأن يضع مصلحتهم فوق مصلحة الأجنبي والدخيل والغريب.
هل يعني هذا أن علينا ألا نعير أي أهمية لما يقال عنا؟ أو أن نستمر في تقديم تبريرات غير مقنعة عندما يواجهنا شخص ويشخص لنا أخطاءنا؟
تقديم الأعذار والتبريرات سمة لا تفارق البشر. كلنا لنا أعذارنا وتبريراتنا حالما يشخص لنا امرؤ سلبياتنا.
بيد أنه بدلا من معالجة الأخطاء لإعلاء شأن الدار والأهل والأحبة، نحاول التملص إما بإلقاء اللوم على الآخرين أو تقديم نماذج لأخطاء أخرى مشابهة تحصل في أماكن أخرى ولا يذكرها منتقدونا أو القول مثلا: "حاسب نفسك قبل أن تحاسبني".
إن كتب صحافي عرضا لأحد كتبي وقدم لائحة بالأخطاء التي وردت فيه، أول عمل عليّ القيام به هو شكره على عمله وثانيا تصحيح كل هذه الأخطاء في الطبعة الثانية، وإن كانت هناك نسخة إلكترونية للكتاب عليّ تصحيحها فورا.
لن ينفعني الأمر بشيء إن تحججت بأن هناك مؤلفا آخر صاحب كتاب كذا وفيه من الأخطاء كذا وكذا ولم يكتب هذا الصحافي عنه أي عرض نقدي.
مع الأسف أرى أن الكثير مما يتم تشخيصه كسلبيات وأخطاء في الشرق الأوسط يجري التعامل معه على مقولة: "لماذا لا تحاسب فلانا أو لماذا لا تدين فلانا" بدلا من معالجة المسألة الخاصة بنا فورا ورفع الغبن عن أنفسنا.
وتذكرني هذه الفرضية الفكرية بالكثير من المواقف منها سياسية واجتماعية واقتصادية وفي شتى المجالات.
العالم مليء بالظالمين من الذين يضطهدون حتى شعوبهم. المشكلة إن واجهتهم وقلت لهم لماذا تضطهدون شعوبكم، أتى الرد سريعا من خلال الاتكاء على هذه الفرضية بالتعلل: "لماذا لا تحاسب الظالم الفلاني الذي يضطهد الشعب الفلاني". الشعب الفلاني في هذه الحالة هو غير شعب هذا الظالم الذي يستشهد به.
وهنا الطامة الكبرى لا بل الاستغلال البشع لفرضية منطوقها أساسا فاشل والبرهنة عليها تجريبيا خارج نطاق العقل ونتيجتها كارثية بكل المقاييس.
التعلل بفرضية كهذه يعد بمثابة جنون لدى القائمين على شؤون الناس في البلدان الإسكندنافية كالسويد مثلا وتجعل من المتشبث بها بمثابة أضحوكة.
إن سرق مسؤول سويدي مبلغا من المال وأتينا وحاسبناه لن يتعلل بهذه النظرية مطلقا، أي أن يقول: "لماذا لا تحاسبون فلانا الذي يسرق أيضا؟" حتى وإن كان سويديا. وإن قال لماذا لا تحاسبون المسؤول في البلد الفلاني الذي يسرق أيضا، لوضع نفسه في موقف حرج وخسر كل هيبته ومكانته وأمضى وقتا غير قليل من حياته في السجن لأن الاتكاء على هكذا فرضية معناه الاعتراف العلني بالأخطاء والجريمة.
ربما كانت هذه مقدمة فكرية طويلة لموضوع العمالة في الخليج العربي ولكنني رأيت أنه لا بد منها إن أردنا وضعها ضمن سياقها وإن أردنا مناقشتها بأسلوب جدلي نضع ما نراه من المسلمات تحت مطرقة النقد.
وإلا كيف نعلل موضوع الخدمة المنزلية وتواجد أعداد هائلة من الخادمات في هذه البلدان وكيف تطمئن القلوب لوضع الأطفال في عهدة خادمات أجنبيات، أجنبيات ليس جنسية بل ثقافة وهوية ولغة ــــ وهنا تكمن الخطورة.
هل يعلم أصحاب الشأن في الخليج أن الكثير من الممارسات والتقاليد والآراء والقيم والهويات ونمو الشخصية نعزوها اليوم إلى ثقافة صاحب أو صاحبة اللغة التي نتربى على يديها؟ إن كانت مربيتي ذات ثقافة ولغة مختلفة، فلا بد لي أن أتأثر بها كثيرا لأن المربية "الخادمة" هي بمثابة مؤسسة شأنها شأن المدرسة تلقنني وتزرع في بذور الثقافة والهوية والعادات والتقاليد التي ستؤثر فيَّ مدى الحياة.
النقاشات التي جرت حول هذه المسألة التي استمعت إلى بعضها وقرأت عنها كانت بعيدة كل البعد عن الأثر السلبي لهذه الظاهرة وكان همهما تشخيصها ضمن الفرضية التي أتيت بها أعلاه وهي خاطئة.
فلا عجب إن حدثت أمور غريبة وعجيبة بعضها لا أريد ذكره لأنه قد لا يليق بمكانة صحيفتنا الغراء ولكنه الواقع وتحدث عنه الناس في الخليج وكأنه جزء من الحياة هناك.
الموضوع شائك وعويص وطويل وقد يحتاج إلى أكثر من رسالة وإلى المقارنة والمقاربة كي ندرك الأذى الكبير ليس ماديا ــــ وهذا يبدو أنه كان غاية أغلب المتحدثين ولب النقاشات برمتها ومع الأسف الشديد ـــ بل اجتماعيا وثقافيا على جيل سينمو وهو متكئ على ذراعي خادمة لا تحمله جسدا بل تلقنه فكرا ومنطقا وطريقة حياة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي