رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بيئة تفعيل الموهبة مسؤولية اجتماعية

تحدثنا في مقال سابق عن مسألة اكتشاف تميز الإنسان وضرورة تفعيل إمكاناته، واعتبرنا أن ذلك مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق المجتمع بأسره. فالثروة البشرية أهم الثروات الطبيعية، والاستثمار فيها أهم الاستثمارات الواعدة، خصوصا عندما تكتشف مصادر التميز فيها، وعندما يعمل على تفعيل عطائها. وقد ذكرنا أن اختلاف مجالات التميز بين البشر هو في مصلحتهم جميعا، لأن ذلك يتيح لكل إنسان أن يعطي للآخرين ما هو متميز فيه، وأن يأخذ منهم ما هم متميزون فيه، لتسير الحياة ويستمر التواصل والتعاون بين البشر. وذكرنا أن أعظم وأجمل تعبير عن هذا الأمر هو قول الله تعالى في سورة الحجرات "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ويحتاج اكتشاف تميز الإنسان والتعرف على مواهبه والعمل على إطلاق هذه المواهب إلى بيئة مناسبة. وهناك دراسات وآراء حول هذا الموضوع الحيوي، لعل من أبرزها، في الوقت الحاضر، "دليل تنافسية المواهب العالمي" الذي يحدد عناصر بيئة الموهبة، ويقوم برصد حالتها في دول العالم المختلفة. وقد صدر بشأن هذا الدليل تقريران أحدهما عام 2013، والآخر عام 2014. وقد تضمن التقرير الأول "48 مؤشرا"، وشمل الثاني "65 مؤشرا". وتعبر هذه المؤشرات عن حالة كل عنصر من عناصر بيئة الموهبة المطروحة في الدليل.
ولعلنا نستعين بالتقرير الثاني في بيان الأسس التي تم على أساسها تحديد عناصر بيئة الموهبة. فطبقا لهذا التقرير هناك ستة محاور رئيسة لهذه العناصر، بينها أربعة محاور تركز على حالة متطلبات تفعيل الموهبة؛ ومحوران يهتمان بحالة مهارات العطاء المتميز التي يمكن أن تنتج عن الاستجابة لهذه المتطلبات. ويمكن هنا ملاحظة أن محاور المتطلبات الأربعة تبين ما يجب عمله لتفعيل بيئة الموهبة، وأن محوري مهارات العطاء يقدمان حصيلة هذا التفعيل، والإمكانات الواعدة التي يمكن توظيفها والاستفادة منها.
يهتم المحور الأول من محاور المتطلبات بالقضايا التي تمثل بيئة "تمكين" الموهبة. وتتضمن هذه القضايا ثلاثة أمور رئيسة؛ وترتبط هذه الأمور بالمشهد التنظيمي للمجتمع، إضافة إلى كل من مشهد نشاطات الأعمال ومشهد التسويق فيه. وبين القضايا المطروحة في هذا الإطار: مدى دعم البحث العلمي، وحجم النفاذ إلى تقنيات المعلومات والاتصالات واستخدامها، ومدى استيعاب التقنيات الحديثة والاستفادة منها. أما المحور الثاني للمتطلبات فيركز على قضايا بيئة "جذب" المواهب وتفعيلها والمحافظة عليها، وما يرتبط بذلك من عوامل اجتماعية واقتصادية تشمل تحفيز الاستثمارات وتعزيز نقل التقنية.
ويرتبط المحور الثالث من محاور بيئة تفعيل الموهبة "بتنمية" الثروة البشرية، ويركز على قضايا التعليم خصوصا التعليم الفني والتدريب المهني، والتعليم الجامعي، وتعليم الإدارة، إلى جانب التعليم المستمر والتعلم مدى الحياة، والتواصل مع الآخرين. ويهتم المحور الرابع من محاور متطلبات بيئة تفعيل الموهبة بموضوع "الاستمرارية" أي مدى الاستدامة في تفعيل هذه البيئة، وفي المحافظة على مستوى المعيشة وعلى البيئة الطبيعية المحيطة.
ونأتي إلى محوري مهارات العطاء المتميز المتعلقين بمدى الاستجابة لمتطلبات تفعيل بيئة الموهبة. فمحور المهارات الأول يرتبط بموضوع "العمالة والتعليم الفني والتدريب المهني"، ويركز على قضايا توظيف أصحاب المهارات من خريجي هذا التعليم، كما يهتم بمدى إنتاجيتهم وعطائهم للمجتمع. ويطرح محور المهارات الثاني، موضوع "التعليم العالي"، ويركز على خريجيه وإمكاناتهم البحثية وعطائهم المعرفي، وريادتهم للأعمال، ومدى إنتاجيتهم.
تظهر الأسس التي طرحها تقرير "دليل تنافسية المواهب العالمي" أن لهذا الموضوع عناصر كثيرة ترتبط بمختلف شؤون الحياة. ولا شك أن مدى تأثير هذه العناصر في تفعيل بيئة الموهبة يختلف بين عنصر وآخر، ثم أن هناك عناصر قد تكون مؤثرة لكنها لم تؤخذ في الحسبان. فبين التقريرين الأول والثاني فرق في عدد المؤشرات يبلغ "17 مؤشرا" أي أكثر من ثلث عدد مؤشرات الأول، أي أن التقرير الأول كان محدودا بالنسبة للثاني، وقد يكون الثاني كذلك بالنسبة للتقرير المقبل. ولعل فائدة التقرير تأتي هنا من طرح الموضوع على مستوى العالم، ومن محاولة تحليله وتحديد مؤشرات حالة قضاياه المختلفة، ثم من البحث عن قيم المؤشرات في عدد كبير من الدول، وبيان النتائج أمام الجميع.
صدر التقرير عن ثلاث مؤسسات. أولها كليات "إنسياد INSEAD" وهي كليات للدراسات العليا تنتشر في مختلف أنحاء العالم وتتمتع بسمعة مرموقة، وتشارك في وضع ونشر عدد من الأدلة الدولية مثل "دليل الابتكار الدولي". أما المؤسسة الثانية فهي "معهد قيادة رأس المال البشري HCLI"، ومقره سنغافورة؛ إضافة إلى مؤسسة "أديكو Adecco" التي تهتم بقضايا توظيف الثروة البشرية، وشعارها "عمل أفضل، حياة أفضل".
حصلت المملكة في التقييم العام "لبيئة الموهبة" في التقرير الثاني الصادر عام 2014 على المرتبة الـ"32" بين "93" دولة جرى تقييمها. واحتلت سويسرا وسنغافورة ولكسمبرج وكندا المراكز الأربعة الأولى، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية، بكل سمعتها العلمية العالمية، في المركز الخامس. وأوضحت هذه النتيجة أن الدول الصغيرة تستطيع احتلال مواقع متقدمة حتى على الدول الكبرى في الاهتمام بالثروة البشرية واكتشاف مواهبها وتفعيلها وريادة المعرفة وتوظيفها.
نرى مما سبق، أن المملكة تحتل مركزا متقدما نسبيا على مستوى العالم، لكن الأمر دائما قابل للتطوير والتحسن. حتى الدول التي في الطليعة لا بد أن تستمر في التطوير كي تحافظ على مواقعها. والمهمة بالطبع أكبر للدول التي تتطلع إلى اختراق المواقع والتقدم إلى الأمام. وفي هذا الإطار يجب التوقف أمام كل قضية مؤثرة في "بيئة تفعيل الموهبة" ودراسة جوانبها والعمل على الاستجابة لمتطلباتها.
لا شك أن التقييم العالمي لقضايا الحياة أمر مفيد ومهم ويحفز الدول على التقدم ويدلها على مكامن القوة ومواطن الضعف لديها. لكن التقييم الذاتي يبقى أكثر أهمية، لأنه يستطيع أن يكون أقرب إلى الواقع، ولأنه يمكن أن يوثق أو يصحح التقييم العالمي. ويتطلب موضوع كموضوع تفعيل الموهبة رؤية شاملة تتضمن مجالات مختلفة ومتكاملة، وليس مجالا واحدا بعينه. ونحن نحتاج إلى بحوث ودراسات ومؤشرات في مثل هذه الموضوعات، بقدر حاجتنا إلى ذلك في المجالات المحددة ذات الأولوية بالنسبة إلينا لقيادة التنمية وتحقيق التقدم المنشود.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي