رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


اكتشاف تميز الإنسان مسؤولية اجتماعية

تتباين إمكانات التفكير والإبداع والابتكار لدى كل فرد منا في المجالات المختلفة كما تتباين أشكالنا وكما تختلف ألوان عيوننا. ولا شك أن هذا التباين في صالح الإنسان، فليس في تطابق إمكانات البشر دوافع للتفاعل فيما بينهم ولحياة اجتماعية تجمعهم؛ كما أنه ليس بين البشر من يتمتع بإمكانات متقدمة في كل شيء تغنيه عن الحاجة إلى إمكانات الآخرين. فكل منا على أرض الواقع يستطيع أن يقدم خدمات للآخرين، وكل منا يحتاج أيضا إلى خدمات الآخرين. بذلك تسير الحياة ويستمر التواصل والتعاون بين البشر. الكل يأخذ والكل يعطي، والأخلاق الحميدة والتشريعات الرشيدة هي الحكم في ذلك بين الناس. وليس أعظم ولا أجمل في التعبير عن هذا الأمر من قول الله تعالى في سورة الحجرات "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وإذا كان بيننا متميزون وموهوبون يتمتعون بقدرة أكبر على الإبداع والابتكار والعطاء المعرفي في شتى المجالات، فلهؤلاء دور خاص في عصر المعرفة الذي نعيش فيه، لأن المعرفة المتجددة والجديدة باتت محركا أساسيا للتنمية الوطنية ودافعا لاستدامتها. من هذا المنطلق، يصبح الاهتمام بالمتميزين والموهوبين مسؤولية اجتماعية يجب التنبه لها.
وتختلف الآراء والتوجهات في مسألة تميز إمكانات التفكير والإبداع والابتكار لدى الإنسان، وفي أساليب التعرف على المتميزين والموهوبين. فهناك من يعتبر أن هؤلاء يمثلون نسبة ضئيلة بين البشر، وهناك من يرى أن كل البشر متميزون وأن كلا منهم يتمتع بموهبة خاصة. وسنلقي فيما يلي، مزيدا من الضوء على هذا الأمر.
في مطلع القرن العشرين أي قبل نحو أكثر من قرن قدم العالم الفرنسي "ألفرد بينت" اختبارا يهدف إلى تقييم مستوى ذكاء الطلاب. وقد تطور هذا الاختبار فيما بعد ليعرف باسم "حصيلة الذكاء Intelligence Quotient: IQ". ولهذا الاختبار أربعة مجالات رئيسة تشمل: المهارة اللغوية، وما يرتبط بها من مفردات ومعان ونصوص؛ والرياضيات، وما يتعلق بها من نماذج وحساب وتحليل؛ والمنطق في التعامل مع المعلومات والتفكير في مضمونها؛ إضافة إلى الاستيعاب الفراغي ثلاثي الأبعاد وتصور الأشكال والمساقط ذات العلاقة.
على أساس هذا الاختبار تم تقسيم الطلاب تبعا لذكائهم إلى ثلاث شرائح رئيسة: شريحة أصحاب الذكاء المرتفع وتبلغ نسبتهم نحو "16 في المائة"؛ وشريحة أصحاب الذكاء المتوسط وتبلغ نسبتهم نحو "68 في المائة"؛ ثم شريحة أصحاب الذكاء المنخفض وتبلغ نسبتهم نحو "16 في المائة" من الناس. كما تم تقسيم شريحة أصحاب الذكاء المرتفع إلى خمسة مستويات رئيسة هي: مستوى المواهب الأساسية؛ فالمتوسطة؛ ثم المرتفعة؛ فالاستثنائية؛ وأخيرا مستوى المواهب الكبرى. ويقل عدد المنتمين إلى هذا المستوى الأخير عن "واحد في المليون"، أي أن هناك في العالم اليوم ما يقرب من "سبعة آلاف شخص" يتمتعون بهذا المستوى، وهذا بالطبع في إطار معطيات الاختبار المذكور.
وتلقى اختبارات "حصيلة الذكاء" انتقادات كثيرة. وبين هذه الانتقادات أنها تهتم فقط بمجالات محدودة ذات طابع أكاديمي، وأنها لا تأخذ في الاعتبار كثيرا من مجالات الحياة الأخرى. أي أن الحاصلين على درجة مرتفعة في "حصيلة الذكاء" هم الطلاب الأكثر تفوقا. ويغفل هذا الاختبار معطيات أخرى من واقع الحياة، دلالتها أن كثيرين من الذين لم يكونوا من المتفوقين دراسيا، يتفوقون في الحياة على أقرانهم من الذين كانوا متفوقين ويتمتعون بحصيلة ذكاء مرتفعة. وخلاصة القول هنا إن حصيلة الذكاء تقيس أمورا، لكنها تغفل أخرى، وأنها لذلك تتمتع بمرجعية محدودة في تقييم الذكاء وليس بمرجعية عامة مطلقة.
في عام 198م قدم "هوارد جاردنر" الأستاذ في جامعة هارفارد نظرة أخرى للذكاء تتضمن تسعة مجالات تستجيب بشكل أوسع لقضايا الحياة ومجالات التميز من نظرة "حصيلة الذكاء". وتشمل المجالات التسعة هذه: المهارة اللغوية؛ والمنطق والرياضيات؛ والاستيعاب الفراغي؛ والتعامل مع الأصوات؛ والإمكانات الحركية؛ وفهم معطيات الطبيعة؛ والتواصل ومحاكمة الأمور ذاتيا؛ والتواصل والحوار مع الآخرين؛ إضافة إلى استيعاب شؤون الحياة.
انتشرت أفكار "جاردنر" في مبدأ تعدد مجالات الذكاء، وباتت تستخدم في بعض مدارس العالم، ولو بتقسيمات أخرى. ومن أمثلة ذلك أن تقرير تعليم الموهوبين في الولايات المتحدة قسم مواهب الطلاب إلى سبعة أقسام هي: موهبة التميز في التفكير والإبداع والعرض المنطقي؛ وموهبة التميز في الإدراك وتنفيذ المهمات الذهنية المعقدة؛ وموهبة التميز في الثقافة؛ وموهبة القيادة؛ وموهبة الفنون؛ وموهبة التميز الدراسي العام؛ إضافة إلى موهبة التميز الدراسي في موضوعات محددة كاللغة والرياضيات وغيرها.
في عام 2009 نشر المختص التربوي "كين روبنسون" كتابه "الجوهر The Element" الذي قال عنه "إنه حصيلة عقود من الملاحظة". وتتركز فكرة الكتاب على أن لكل إنسان جوهرا يعطيه تميزا معينا في الحياة، عليه العمل على اكتشافه. وعلى المجتمع، بمختلف مؤسساته ابتداء من الأسرة، مساعدة كل إنسان على اكتشاف جوهره لأن هذا الاكتشاف يمكنه من التوجه نحو العمل ضمن ما هو متميز فيه، ولأن ذلك أيضا يضمن له النجاح. فالمجتمع الأكثر نجاحا أكثر قدرة على الإبداع والابتكار والتفوق.
إن قضية اكتشاف تميز الإنسان، والعمل على تحفيزه ورعايته، وتشجيعه على الابتكار، والاستثمار في مبتكراته من أجل التنمية، مسؤولية اجتماعية كبرى. ولا تقع هذه المسؤولية على هيئة أو مؤسسة بعينها، بل تقع على عاتق مؤسسات عديدة يطلب تنسيق العمل فيما بينها من خلال خطط وبرامج مشتركة. ولعل المؤسسة الأولى في هذا المجال هي "مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع" التي أقامت أخيرا على أرض معارض الرياض مهرجانا ناجحا للعلوم والإبداع شهد إقبالا غير مسبوق. ومع مسؤولية هذه المؤسسة تأتي أيضا مسؤوليات مؤسسات التعليم بمستوياتها المختلفة. ويضاف إلى ذلك: دور الأسرة؛ ودور الإعلام؛ ودور المؤسسات المهنية والمؤسسات الاستثمارية؛ بل الأفراد؛ كل تبعا لدائرة تأثيره. والمطلوب إدراك الجميع لهذه المسؤولية المشتركة، والعمل معا على إعطاء المتميزين بيئة متميزة تمكنهم من إسهام أكبر في التنمية وفي تعزيز استدامتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي