رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مراكز التفكير مسؤولية اجتماعية

طرحنا في مقال سابق موضوع التفكير كمسؤولية اجتماعية تقع على عاتق الجميع. ومنطلق ذلك أن التفكير عيون للبصيرة، ترى الأمور بعمق أكبر ووضوح أشمل، لتؤدي إلى قرارات أغنى حكمة وسلوك أكثر نضجا، وليتمتع المجتمع بذلك بقدرة متميزة على العطاء والتقدم. وذكرنا في هذا الإطار أن التفكير يقع في صلب ثقافتنا الإسلامية، حيث قال الله تعالى في سورة آل عمران (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)، وقال أيضا في ذات السورة (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)، إضافة إلى قوله تعالى في سورة البقرة (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب).
وللتفكير في قضايا المجتمع الكبرى، على المستويين الوطني والعالمي، بما يشمل الخطط والسياسات الوطنية والدولية واتخاذ القرارات المهمة في مختلف المجالات، احتياجات خاصة. فهي تتطلب شراكة في التفكير بين أصحاب تخصصات مختلفة، وتحتاج إلى دراسات استباقية تستعد لاحتمالات مستقبلية، وتهتم بحلول وحلول بديلة، وتستند إلى معلومات وإحصائيات يطلب توفيرها، وتتطلب صياغة للمعطيات توضح المهمات، وترسم خطى العمل، وتضع توقعات للنتائج ومعطياتها. على هذا الأساس تبرز الحاجة إلى "مراكز تفكير Think Tanks" تجمع المتميزين من أصحاب الخبرة والاختصاصات المختلفة، وتتيح لهم الشراكة المعرفية وما يلزم من الإمكانات من أجل الاستجابة للمتطلبات، ومن أجل تأهيل أجيال المستقبل في هذا المجال.
المكان الأمثل لمثل هذه المراكز هو الجامعات. فهي المسؤولة عن التعليم وعن البحث العلمي والإبداع والابتكار في مختلف مجالات الحياة، فلماذا لا تكون مسؤولة أيضا عن الموضوعات المتشابكة لقضايا المجتمع وقضايا مجتمعات العالم الكبرى، المرتبطة بمجال واسع من المعرفة غير المحصورة في موضوع واحد.
مسؤولية الجامعات هذه هي بالفعل واقع الحال في كثير من دول العالم. وتجدر الإشارة هنا إلى عبارة تحدد ما هو متوقع من أستاذ الجامعة أطلقها "ودرو ويلسون" مدير جامعة "برينستون" المرموقة، الذي أصبح رئيسا لأمريكا قبل نحو قرن من الزمان، حيث قال موجها خطابه للأستاذ الجامعي: "لَست هنا من أجل أن تؤمن دخلا للمعيشة؛ أنت هنا لتمكين العالم من الحياة: بصورة أفضل، ورؤية أوسع، وبروح من الأمل، والعمل على الإنجاز".
ولعل بين أبرز مراكز التفكير في العالم اليوم "معهد ودرو ويلسون" التابع لجامعته "برينستون". ولهذا المعهد رسالة حددها عميده السابق، "هنري باينين"، بقوله: "إنه معهد للسياسات العامة في العالم، يركز على أدوات التحليل، ويهتم بالمهارات والمنهجيات، في مجالات متعددة ترتبط بالمشكلات الفعلية التي تواجه العالم".
وهناك في جامعة "هارفارد" الشهيرة معهد مثيل هو "معهد كندي". ويسعى هذا المعهد إلى توليد أفكار جديدة عبر البحوث والدراسات، ويعمل على تأهيل القيادات عبر البرامج التعليمية. وتشمل خدماته كلا من: القطاع العام والقطاع الخاص، إضافة إلى القطاع غير الربحي، وذلك في مجالات: الحوكمة؛ والسُكان؛ والتنمية؛ والابتكار؛ والإعلام؛ وغير ذلك. و"جون كندي" الذي تحمل المدرسة اسمه كان أيضا رئيسا للولايات المتحدة، وذلك في مطلع الستينيات من القرن العشرين. وله قول مأثور في العلاقة بين القيادة والتعلم هو التالي: "القيادة والتعلم أمران لا غنى لأي منهما عن الآخر".
ويلاحظ أن المعاهد سابقة الذكر تحمل أسماء رجال كانوا قادة متميزين في بلادهم تعبيرا عن غاية هذه المعاهد في دعم القيادات المسؤولة بدراسات حول السياسات الأفضل لتحقيق أهدافهم وتطلعاتهم المنشودة.
في آسيا هناك "المعهد الكوري للتنمية" وهو هيئة مستقلة بحثية تعليمية تسعى إلى تقديم سياسات وسياسات بديلة فاعلة ومناسبة لكل من المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص داخل كوريا، مع العمل أيضا على الاستجابة للمتطلبات العالمية. وتجدر الإشارة إلى أن شعارات المعهد عبر العقود التي مر بها منذ إنشائه تضمنت التالي: "1970: التركيز على الاقتصاد؛ 1980: الاستجابة لموجة التغيير؛ 1990: عولمة الاقتصاد؛ 2000: نحو اقتصاد متقدم؛ 2010: إدارة الاقتصاد وتفعيل الدور العالمي". وقد كلفت وزارة الاقتصاد والتخطيط في المملكة العربية السعودية هذا المعهد، في السنوات الأخيرة، بالمشاركة في إعداد مسودة "استراتيجية تحول المملكة إلى مجتمع المعرفة".
وهناك في آسيا أيضا "معهد لي كوان يو" التابع "لجامعة سنغافورة الوطنية". ويعمل المعهد على رفع مستوى الحوكمة وتطوير حياة الناس، وتعزيز مسار تقدم المجتمع، ليس فقط على مستوى دولة سنغافورة فقط، بل على مستوى آسيا كلها والعالم بأسره، وذلك عن طريق تعليم السياسات العامة وتفعيل إمكانات الأجيال المستقبلية من القادة في شتى المجالات، وعبر البحث في هذه السياسات، والإبداع في إيجاد أفضلها لقضايا الحياة المختلفة. وعلى هذا الأساس، تشمل مجالات عمل المعهد: سياسات التنمية؛ والسياسات الاجتماعية؛ وسياسات الطاقة والبيئة والمياه؛ واقتصاديات آسيا والعالم؛ إضافة إلى العلاقات الدولية. ويحمل المعهد اسم زعيم سنغافورة الذي قادها إلى التنمية والتقدم خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وفي اليابان هناك جامعة مستقلة للدراسات العليا في مجالات السياسات العامة تدعى "المعهد الوطني الياباني". ويتطلع هذا المعهد إلى الإسهام في تحقيق "حوكمة رشيدة" على مختلف المستويات. وتتضمن مجالات اهتمام المعهد: السياسات العامة؛ والاقتصاد الكلي؛ والمالية؛ وسياسات التنمية والثقافة والتعليم والعلوم والتقنية والابتكار والملكية الفكرية؛ وإدارة المخاطر والكوارث. ويركز المعهد على قضايا المناطق النائية والمناطق المدنية ويسعى إلى تحقيق تنمية شاملة.
وهكذا نجد أن العالم، بطرفيه الغربي في أمريكا والشرقي في آسيا، يهتم بتنمية مراكز التفكير من أجل استنباط التوجهات المثلى التي تؤدي إلى تعزيز التنمية الشاملة على كل المستويات وفي جميع المجالات، ومن أجل تأهيل المهنيين القادرين على المضي قدما في هذه التوجهات وتحقيق التميز والحرص على تجدده واستمراره في خدمة المُجتمعات وتفعيل تنميتها.
ولابد لنا في سبيل تحقيق طموحاتنا من الاهتمام "بمراكز تفكير خاصة بنا" ترسم توجهاتنا المستقبلية بموضوعية واستيعاب للواقع، وتؤهل الأجيال المقبلة لتوجيه التقدم نحو عطاء متميز لا يواكب متطلبات العصر فقط، بل يسهم في الحضارة الإنسانية أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي