رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عندما نخفي التعصب والنرجسية وراء الانتماء والوطنية

كثير من الأحيان أشعر أن دعاوى الانتماء للمجتمع أو الوطن والحرص على مصلحته في قضية أو موقف معين ما هي إلا غطاء لتحقيق مصالح شخصية أو لتبرير فشل أو كسل أو عجز شخصي أو جماعي أو للتقليل من شأن ناجح أو فئة أو مجموعة متميزة أو لاتهام منافس لإقصائه من ساحة المنافسة وإن كان منافسا شريفا يتبع قواعد المنافسة النظامية.
ويبدو لي من خلال تجربتي الشخصية والعملية أن شيوع النرجسية في مجتمعنا خصوصا لدى الشباب نتيجة الطفرة الاقتصادية وما ترتب عليها من مشاريع تنموية هائلة وما صاحبها من استقدام للموارد البشرية الوافدة بشكل كبير للعمل لدينا جعلت معظمنا يشعر بالأهمية والغرور والتعالي ومحاولة التكسب على حساب الوافدين، كما جعلتنا أيضا لا ندقق بل نرحب بأي دعوى تطعن في الآخر أو تزدريه أو تشكك في نجاحاته أو تقلل من شأنه لأسباب عاطفية خصوصا إذا كانت تحت غطاء حماية المصلحة الوطنية من الوافدين.
أحدهم قال وبملء فمه وبثقة عالية إن إحدى الشركات التي يمتلكها وافد متجنس حصلت على أرباح مليار ريال من مشروع معين وإنه حولها لبلده الذي جاء منه دون أن يضخ منها ريالا واحدا في بلادنا، وعندما قلت له حسب علمي أن هذا المشروع ميزانيته تزيد على نصف المليار بشيء قليل، فكيف حقق هذا الربح؟ قال لا أعلم هذا ما سمعته ونقلته بدون تدقيق لأنه موافق لهواي.
مستثمر سعودي في مجال معين يعمل جاهدا لتحقيق أرباح عالية في مجاله دون الالتزام بالنظام وسداد حقوق الدولة ويسعى جاهدا لعدم تنظيم السوق ليستمر في تحقيق أرباحه على حساب المصلحة الوطنية، انتفض للحفاظ على المصلحة الوطنية عندما استطاع مستثمر سعودي منافس أن يكتسحه ويحد من تلاعبه بادعائه أن المنافس الناجح ما هو إلا متستر على مستثمر أجنبي معروف، مستثمرا لعدم معرفة الكثير هيكلة السوق المحلية المرتبطة بالسوق الدولية وآليات عملها والشركات الكبرى العاملة فيها وضرورة التعاون معها لتنمية السوق المحلية.
هذا المستثمر لاقت ادعاءاته المغلفة بالمحافظة على المصلحة الوطنية ومحاربة التستر ـــ وهي خلاف ذلك تماما ـــ قبولا واسعا وتفاعلا كبيرا من النخب والرأي العام والجهات المعنية بتنظيم السوق وتعاملاته وحماية عناصره دون أن تدقق فيما طرحه من ادعاءات لأنه لامس نرجسية المجتمع الذي يبالغ في تقدير ذاته ويزدري الآخرين وحقوقهم وإنجازاتهم.
النرجسية اضطراب في الشخصية تؤدي للشعور بالتميز والغرور، والتعالي، والشعور بالأهمية ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين دون مبرر لذلك، والنرجسية أو ما يطلق عليها البعض "الأنانية" تجعل الإنسان لا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بشخصه بشكل يتجاوز المعقول لدرجة تسفيه آراء الآخرين ونجاحاتهم والسعي إلى السيطرة عليهم، والأناني مريض نفسيا ليس لديه محرمات بل يُحلل لنفسه كل شيء ما دامت مصلحته موجودة بدعوى الحفاظ على مصلحة المجتمع والوطن.
أولى خطوات معالجة المرض الاعتراف به وتشخيصه بدقة وعدم إنكاره بتجميله بمجملات عاطفية محببة لدى المجتمع كالانتماء والولاء والوطنية وحماية مصالح المجتمع، والنرجسية أو الأنانية وما ينتج عنهما من تعصب ثم تطرف ثم إرهاب مادي، يبدو لي أنها أمراض يجب تشخيصها ومعالجتها مجتمعيا من جذورها بالبحث عن مغذياتها وبترها بالانفتاح على الآخر وقبوله والنظر لما لديه من تجارب ناجحة كفرصة يجب الاستفادة منها لنتحول كمجتمع إلى وجهة نظر أكثر واقعية بمكانتنا في العالم وفق معايير مرجعية لا إلى أهواء عاطفية لنعرف مواطن فشلنا وقصورنا ولنصبح أكثر قدرة على تفهم قدرات ونجاحات الآخرين والاعتراف بها والاستفادة منها.
أذكر أن أحد الموظفين ممن تجاوز العقد الخامس من العمر تضايق جدا عندما اتفقت جهة عمله مع شريك دولي ذي تجارب عريقة ناجحة في مجال عمله لتطويره على أن يقوم الشريك الدولي بتوطين البرنامج التطويري بجميع عناصره بما في ذلك تأهيل الكوادر السعودية قبل انتهاء الاتفاقية، وكان ذلك بهدف البدء من حيث انتهى الآخرون والتعرف على التجارب الإدارية والفنية الحديثة. إلا أن الموظف النرجسي لم ير في ذلك فرصة لاكتساب المعرفة والمهارة والخبرة بل رأى في ذلك هدرا للمال وتقديرا للأجنبي على حساب المواطن، وما كان ذلك إلا لأنه لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يحثه أحد على العمل ويكشف قصوره.
أحد الموظفين الذين تم ابتعاثهم للحصول على شهادة عليا من جهة عمله يقول لم أعرف أنني نرجسي بغطاء وطني إلا بعد أن قارنت ذاتي وأعذاري ومفاهيمي مع الآخرين، حيث اكتشفت أني أعيش الخديعة الكبرى بأنني متميز وأنني منصف في تقييم ذاتي والآخرين وأنني على درجة عالية من العدالة والإنسانية وأنا خلاف ذلك تماما، ويضيف، لا شك أن الانفتاح على الآخر علاج ثقافي ناجع لما نحن فيه من نرجسية تشكل حاجزا بيننا وبين الآخرين والعلم والمعرفة والمهارة والخبرة، كما تشكل حاجزا بيننا وبين اكتشاف ذواتنا الحقيقية لا الخداعة لنا وللآخرين.
وإذا كان هذا الموظف قد أتيحت له فرصة الابتعاث وتمكن من اكتشاف الخديعة الكبرى التي تحرمه العقلانية واكتساب المعرفة والمهارات والخبرات لاختصار الوقت والجهد والمال للوصول للأداء الأمثل والجودة المنشودة فكيف لنا أن نخفف النرجسية المجتمعية دون ابتعاث.
أتطلع إلى أن ينهض قادة الفكر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في بلادنا لتحليل وتشخيص النرجسية المجتمعية والفردية ووضع الحلول للحد منها ومن آثارها لنتمكن من استثمار التنوع والنجاحات المحلية والدولية بمنطقية وعقلانية لننفض عنا الكسل والتعصب ولننهض بأنفسنا وبلادنا بروح المبادرة والابتكار والاستفادة مما حققه الآخرون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي