التفكير مسؤولية اجتماعية
عندما نتلقى معلومة، من خلال قراءة أو محاضرة أو حديث، أو ربما عبر ملاحظة شخصية، فإن وسيلة إدراك مضمون هذه المعلومة موضوعيا هو التفكير. فالتفكير هو طريق الفهم والاستيعاب؛ وهو طريق اتخاذ القرار السليم في مختلف شؤون الحياة؛ وهو طريق التخطيط وضبط العمل بالاتجاه الصحيح؛ هو أيضا طريق الحكمة والإبداع والابتكار وإعمار الأرض.
ويكمن الحث على التفكير في صلب ثقافتنا الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر قول الله تعالى في سورة آل عمران:( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)، وقوله تعالى أيضا في السورة ذاتها: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)، ثم في قوله تعالى في سورة البقرة:(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب).
وعلى الرغم من التقدم العلمي الهائل والمنجزات المعرفية الكبيرة، إلا أن هناك شعورا عاما بأن التفكير الواعي والسليم لا يلقى ما يجب أن يلقاه من اهتمام. وفي هذا الإطار يقول "إدوارد دو بونو" المتخصص المعاصر في شؤون التفكير "إن أهم مشكلة تواجهها الإنسانية اليوم ليست مشكلة البيئة والتغير المناخي أو غيرها من المشكلات الكبرى، بل هي مشكلة عدم كفاية التفكير". ولعل جوهر المعنى هنا هو أن تحقيق كفاية التفكير يجنب العالم مشكلاته الكبيرة مثل مشكلة البيئة والتغير المناخي، ناهيك عن أنه يجنب أيضا الأفراد والمجتمعات مشكلات أخرى كثيرة.
ويعتبر التفكير "مهارة" يستطيع الإنسان اكتسابها، وقد وضعت لهذه المهارة أساليب عديدة. وبين هذه الأساليب ثلاث طرق رئيسة تعتمد على هيكلة التفكير وتجزئته إلى محاور للوصول إلى فهم سليم أو قرار سليم بشأن أي مسألة يطلب التعامل معها على أفضل وجه ممكن. ولعل أقدم طريقة في هذا المجال، هي طريقة طرح التساؤلات، وترتبط هذه الطريقة "بسقراط"، حكيم أثينا القديم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، الذي كان يعمل بها مع طلابه. وهناك ثلاثة تساؤلات رئيسة تطرح حول أي مسألة، ويعني ذلك ثلاثة متطلبات للتفكير. وتشمل هذه الأسئلة: "ماذا" بمعنى بيان المسألة المطروحة، والهدف منها؛ و"لماذا" بمعنى الأساس الفكري أو النظري للمسألة؛ و"كيف" بمعنى حيثيات التعامل المطلوب معها.
وتقضي طريقة ثانية من طرق هيكلة التفكير بالنظر إلى المسألة المطروحة من خلال أربعة محاور لتوضيحها وتسهيل التعامل معها. والمقصود هنا أربعة متطلبات للتفكير هي: مكامن القوة في المسألة المطروحة؛ ومواطن الضعف فيها؛ والفرص الممكنة أمامها؛ والعوائق التي قد تصادفها.
أما الطريقة الرئيسة الثالثة لهيكلة التفكير فهي تلك التي وضعها "دو بونو". وتتعامل هذه الطريقة مع المسائل المطروحة من خلال ستة محاور أي ستة متطلبات للتفكير. ويجري التعبير عن كل محور "بقبعة" تحمل لونا معينا ومتطلبا محددا، يفترض مجازا أن يلبسها المفكر أثناء عملية التفكير. محور القبعة "البيضاء"، يطلب جمع أكبر قدر متوافر من المعلومات حول المسألة المطروحة؛ ومحور القبعة "الصفراء"، يهتم بالنواحي الإيجابية، بمعنى مكامن القوة والفرص الممكنة؛ ومحور القبعة "السوداء"، يركز على النواحي السلبية بمعنى مواطن الضعف والعوائق المحتملة؛ ومحور القبعة "الحمراء"، يأخذ في الاعتبار التوجه العاطفي تجاه المسألة؛ ومحور القبعة "الخضراء"، يبحث عن أفكار إبداعية للتعامل مع المسألة؛ ثم يجمع محور القبعة "الزرقاء" كل ما تقدم لتكوين الفهم المطلوب وتحديد التوجه المطلوب.
وهناك بين أساليب التفكير أسلوب "الشراكة المعرفية" الذي يمكن أن يتم مع أو دون طرق هيكلة التفكير سابقة الذكر. وطبقا لهذا الأسلوب، يقدم عدد من الناس أفكارهم حول المسائل المطروحة. وقد تتفق هذه الأفكار أو تختلف، لكنها توسع الرؤية إلى هذه المسائل. وفي هذا الإطار يقول "جورج برنارد شو" الكاتب الذي اشتهر في القرن العشرين: "إذا كان لديك تفاحة ولدي تفاحة وقمنا بتبادلهما، فالنتيجة لا تتغير حيث يبقى لكل منا واحدة؛ أما إذا كان لديك فكرة ولدي أخرى وقمنا بتبادلهما، فإنه يصبح لدى كل منا فكرتان". ولعله يمكن القول هنا أيضا أن الأفكار المتبادلة يمكن أن تولد المزيد من الأفكار التي تسهم في الإبداع والابتكار. وهذا ما يجري فعلا في المؤتمرات العلمية في المجالات المختلفة، وفي لقاءات الحوار والتخطيط للمستقبل.
وفي إطار توليد الأفكار الجديدة والإبداع والابتكار، هناك تعبير يتردد كثيرا شعاره "دعونا نفكر خارج الصندوق". والمقصود بهذا الشعار توسيع رؤية التفكير وعدم تقييده في إطار محدود. وهناك قصة تروى في هذا المجال أوردها "دو بونو" في كتابه "التفكير الجانبي"، أي التفكير الذي ينظر إلى الأمور برؤية واسعة تشمل جميع الجوانب وليس من نافذة صغيرة يظهر منها جانب واحد فقط.
تقول القصة إن رجلا تقدم إلى الزواج من فتاة لا تريده، وأنه توصل مع أهلها إلى حل يعتمد على عشوائية الحظ. ويقضي أن تسحب إحدى ورقتين في إحداهما "الموافقة" وفي الأخرى "الرفض". لكنه عمد في الوقت ذاته إلى التزوير ووضع "الموافقة" في كلتا الورقتين، ووصل هذا الأمر إلى علم الفتاة صاحبة العلاقة، فماذا فعلت؟
سحبت الفتاة ورقة وابتلعتها، وطلبت من الشهود النظر إلى الورقة الأخرى التي كانت "الموافقة". وهكذا يكون الاستنتاج أن الورقة المسحوبة تضمنت "الرفض" وهو ما تسعى إليه. بهذا التصرف استطاعت الفتاة توسيع الرؤية والتركيز ليس فقط على ما ستسحب، بل على ما سيبقى أيضا، لتبطل كيد التزوير غير الأخلاقي وتستغله لمصلحتها، وتحقق ما تريد.
لا شك أن التفكير مسؤولية اجتماعية، على أن يتمتع بمرجعية دينية وأخلاقية. ولدينا بحمد الله جاهزية كبيرة لذلك ممثلة في قطاع كبير من أصحاب الشهادات الجامعية في مختلف مجالات الحياة وعلى مختلف المستويات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القضايا العامة تحتاج إلى تفكير يجمع النخبة في شراكة معرفية بحثية وإبداعية، وتقوم "مراكز التفكير Think Tanks" بمثل ذلك في مختلف دول العالم. وسيكون لنا عودة إلى هذه المراكز في مقال قادم، بمشيئة الله.