رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مكاتب المراجعة الوطنية .. الطريق الوعر إلى العالمية

ارتبكت الشركات في السوق المالية وسوق مراجعة الحسابات في المملكة بشكل خاص عندما صدر تعميم هيئة السوق المالية بوقف التعامل مع مكتب ديلويت للمراجعة. والسبب في ذلك أن حجم حصة مكتب ديلويت سواء في السوق المالية أو في سوق الشركات والمؤسسات الأخرى غير المدرجة في السوق حصة ذات أهمية نسبية. وعلى الرغم من أن هيئة السوق تصر بأن قراراها ليس له علاقة بغير الشركات المدرجة في السوق المالية، لكن الحقيقة التي تتجاهلها هيئة السوق المالية وبتعمد هي أن سوق المراجعة تعتمد على سمعة المراجع وذلك فإنه من المتوقع أن تتأثر الشركات الأخرى غير المدرجة في السوق بقرار الهيئة.
من المعلوم أن مكاتب المراجعة الأربعة الكبار تسيطر على أكثر من 70 في المائة من السوق المالية وأن ستة مكاتب تسيطر على أكثر من 80 في المائة من السوق، وهذا يشير إلى تركيز في سوق المراجعة في المملكة في جانب العرض. لكن الحقيقة أن هذه ليست ظاهرة خاصة بالسوق السعودية فقط بل هي من صفات سوق المراجعة في كل دولة تقريبا وتصنف السوق السعودية بأنها من الأسواق متوسطة التركيز، حيث ترتفع سيطرة هذه المكاتب الأربعة إلى 95 في المائة في الأسواق العالمية الكبرى مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ومن المدهش أيضا ـــ كما أثبتت الدراسات والأبحاث ـــ أن هذه السيطرة لم توجد أرباحا احتكارية، بل على العكس تماما، فهناك سوق تنافسية بين هذه المكاتب، وهذه المنافسة أثرت كثيرا في مستويات الأتعاب وأحيانا الخدمات. نعم تحصل المكاتب الكبيرة على أتعاب أعلى من غيرها لكنها على مستوى التكاليف قد لا توفر هذه الأتعاب تغطية شاملة للتكاليف التي يتكبدها المراجعون والمخاطر التي يتعرضون لها، خاصة في سنوات المراجعة الأولى للشركة، ولذلك تعتمد المكاتب الكبيرة على سياسة اقتصاديات الحجم حتى تحقق سيطرة على السوق.
مشكلة أخرى لدينا هي الاعتقاد أن المكاتب الأربعة الكبار مكاتب أجنبية، لكن الحقيقة أنها مكاتب تضم مراجعين وشركاء سعوديين، إضافة إلى الشريك الأجنبي بالطبع. فالميزة التي تحققها هذه المكاتب ومن خلالها تسيطر على السوق هي هذه الشبكة من الشركاء حول العالم، وقدرة هذه المكاتب على توفير الاستشاريين ونقل المعرفة والتجارب من العالم إلى العالم وبسرعة. فالمستجدات التي تواجه شركاء المجموعة في الصين يمكن طرحها للمناقشة والاستفادة منها في مكاتب الشركاء في الولايات المتحدة وهكذا في أنحاء العالم، إضافة إلى أن هذه المكاتب توفر كثيرا من الباحثين وأساتذة الجامعات لدعم شبكة عالية من الأبحاث والدراسات والتدريب وما يطرأ من مشكلات محاسبية أو مهنية فإنها تعرض بسرعة على أعضاء هذه الشبكة للمساعدة في حلها، وكل هذا يحقق لهذه المكاتب ميزة تنافسية كبرى في أي سوق ويصعب على أي مكاتب وطنية ـــ في أي مكان في العالم ـــ منافستها بشكل "فردي"، وأشدد على عبارة "بشكل فردي".
والنتيجة أن المكاتب الوطنية الصغيرة ـــ في العالم بأسره ــــ غير قادرة على المنافسة بحجمها وتأهيلها ووضعها الصغير نظرا للضعف في فلسفة بناء المكاتب والخدمات إلى تقدمها، وضعف في فلسفة التعليم المستمر والقدرة على تمويله. فإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم المكاتب الوطنية السعودية تستخدم مهنة المراجعة للدخول إلى عالم الاستشارات بسرعة، فهي تستخدم مهنة المراجعة التي لا تمارس إلا من خلال ترخيص مهني يوفر غطاء شرعيا احتكاريا كي تتمكن من خلالها الدخول إلى السوق والشركات والمحاكم للحصول على مهام التصفية والحجز "وقد" تقبل بعمليات مراجعة غير المربحة فقط ليتم التسويق للعمليات الاستشارية. وهذا يجعل المكاتب تتكاسل عن تطوير مهاراتها وتجاربها في مراجعة الشركات ومستجدات المعايير والمحاسبة الإبداعية والحلول الاحترافية للمشكلات المحاسبية التي تواجه الشركات المساهمة، أو حتى الاستثمار في هذا المجال كما تفعل شبكة المكاتب الكبيرة.
في المقابل فإن الشركات المساهمة الكبرى وغيرها لا تطلب المراجع لمجرد مراجعة القوائم المالية بل من أجل تقييم معالجة المشكلات المحاسبية وفقا لمستجدات المعايير وتطلب تطوير مهارات موظفيها والبحث عن حلول أفضل، فهي تطلب خدمات المراجعة ليس لمنح الثقة للمعلومات المالية التي تنتجها الشركة فقط بل للحصول على المعرفة من خلال قدرة المكاتب الكبرى على نقلها لموظفي الشركة. لهذا فإن أي انكشاف يصيب المكاتب الكبرى لا يمكن تعويضه بالمكاتب الوطنية الصغيرة غير المرتبطة بشبكة عالمية.
الحل يكمن في ثلاثة مفاهيم رئيسة، تعليم مستمر، شبكة عالمية، اقتصاديات الحجم. واقتصاد الحجم يتحقق من إيجاد كيانات وطنية كبيرة تستطيع أن تحقق هذه الميزة، وأن تكون مرتبطة بشبكة مهنية خليجية عربية عالمية، وأن تعمل هيئة المحاسبين على تطوير مفهوم التعليم المستمر من مجرد دورات تدريبية وندوات صغيرة وساعات مراقبة إلى مركز متكامل للأبحاث والدراسات يقدم خدمات مستمرة لهذه الكيانات الوطنية ويربطها بالجامعات. وكخطوة أولى لا بد لهيئة السوق المالية ووزارة التجارة وهيئة المحاسبين ومجلس المنافسة وهيئة مكافحة الفساد والغرف التجارية من الدخول في مشروع مشترك الهدف منه إيجاد كيانات وطنية كبيرة قادرة على تعزيز السوق بمؤسسات مراجعة كبيرة ومتقدمة.
لا يوجد لدي تصور واضح أو استراتيجية ممكنة لإنجاز هذا، لكن الفكرة المتداولة هي اندماج مكاتب وطنية موجودة في الساحة الآن، لكن هذه التجربة لم تجد حتى الآن أذنا صاغية من المكاتب نفسها فالسوق الاستشارية أكبر وأفضل من الدخول في مجازفة بناء شركات غير مضمونة. في اعتقادي أن البحث عن تجارب مماثلة في صناعات ودول أخرى ودراسة عميقة لنشأة المكاتب الكبيرة في شتى الصناعات قد لا يوجد تجربة فريدة وثرية نعالج بها خللا يعانيه مختلف دول العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي