حرية التعبير لا تعني استفزاز أو إهانة الآخر
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول ما هيّة حرية التعبير في الصحافة والإعلام، وهل أن هذه الحرية تعني فتح الباب على مصراعيه للوسيلة الإعلامية أو الصحافي لقول ما يريد قوله ونشر ما يريد نشره؟ وأخذ هذا الحديث مديات ما كان بإمكاننا الوصول إليها لولا النقاش الذي يبدو أنه سيستمر لفترة طويلة حول الرسومات المسيئة والمغرضة والاستفزازية التي تسيء إلى نبي المسلمين والتي أصرت على نشرها مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية.
ودخل الأكاديميون المعترك بسرعة وبدأت بعض الدراسات الأكاديمية الرصينة تظهر لتفكيك وتحليل وإلقاء الضوء على ظاهرة هذه المجلة وإصرارها على الإساءة إلى نبي المسلمين وبطريقة لا بد أن تستفز أكثر من 1700 مليون مسلم على وجه الأرض.
لا نقاش أن العنف غير مقبول والقتل كما حدث لصحافيي هذه المجلة وغيرهم أمر شنيع لا يمكن تبريره ولكن في الوقت ذاته هل يمكن تبرير الإساءة بهذا الشكل إلى رمز يقدسه مئات الملايين ويعدونه جزءا من حياتهم وكيانهم ووجودهم؟
لقد ظهر جليا اليوم أن هناك خللا كبيرا في المفهوم الغربي لـ "حرية التعبير"، وهذا الخلل فيه نفاق وازدواجية ظاهرة للعيان شمسها ساطعة ولا يمكن إخفاؤها بالغربال. ونحن المختصون في الإعلام وتحليل الخطاب ونقده علينا تغيير أو تعديل مناهج تدريسنا كي ندخل مفهوم الرمزية فيها وما تعنيه للناس المختلفين عنا من حيث التشبث برمزيتهم.
اليوم لا تقبل الدساتير والأعراف والقوانين في الغرب أن يستخدم أي شخص، كائنا من كان، عبارات نابية عند تعلق الأمر باللون والعرق والأصل والدين والمذهب والميول الجنسية، وهناك عقوبات قاسية لمرتكبي هكذا إساءة.
إننا كبشر نرد بصورة ربما لا إرادية أو قد تكون انفعالية إذا أساء شخص إلى أحد من والدينا باستخدام خطاب مهين، والسبب واضح لأن للوالدين مكانة رمزية كبيرة لدينا، ومن هذا المنطلق يجب علينا ألا نجرح مشاعر الآخرين بالاستهانة بوالديهم، فكم بالأحرى نبي يراه 1700 مليون إنسانا أرفع شأنا من أي شيء خلقه الله على هذه الأرض؟
غريب أمر بعض الدول الغربية وأكثر غرابة هو المفهوم غير المنطقي واللاعقلاني الذي تستخدمه أحيانا في الدفاع عن حرية التعبير.
في الغرب هناك ما أستطيع تسميته بلائحة "قل ولا تقل" حول الأمور التي لا يحق لنا جعلها مادة خطابية ليس في الإعلام بل حتى في الحديث العادي مع الآخرين. نحن لا نستطيع في الخطاب الإعلامي وغيره إهانة أي فرد في المجتمع وذلك من خلال الاستهزاء بلونه وميوله الجنسية ودينه وعرقه ومذهبه. كم صحافي كبير في الغرب خسر منصبه ومصدر رزقه واعتذر على الملأ ليس بسبب مقال أو صورة نشرها في الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها بل لأنه قال أمام صديق أو كتب في موقعه الشخصي أمرا مهينا بحق الآخر. ولا أريد أن أذكر أمثلة لأنها كثيرة جدا وآخرها استقالة المذيع والصحافي الشهير جيم كلانسي الذي عمل نحو 34 سنة في قناة "سي إن إن" فقط لاستخدامه كلمة واحدة دون قصد منه رأى فيها اللوبي الصهيوني في أمريكا أنها مسيئة لإسرائيل.
أصوات كثيرة ومهمة ومؤثرة جدا في الغرب بدأت تعي أن مجلة "شارلي إيبدو" تخطت كل الخطوط الحمر في فن الخطاب ولا سيما أخلاقية حرية التعبير من منظور إنساني ووصل الأمر بمؤسس هذه الجريدة ذاتها إلى قول ما معناه "على نفسها جنت براقش" في نقده لرئيس تحريرها وذلك لإصراره وعناده على تكرار الإساءة.
المسلمون استنكروا العنف ووقفوا في صف فرنسا ضد الإرهاب والقتلة وكان يجب على الجانب الآخر أن يراعي مشاعر المسلمين ويكف عن استفزازهم.