فوضى النمو
يشكل النمو القوي لقطاع الوجبات السريعة والمطاعم علامة فارقة في ملامح النشاط الاستهلاكي المحلي. أصبحنا نرى اليوم الشركات الوطنية الكبرى تدخل إلى هذا المجال لتؤسس وتستحوذ على المطاعم الناجحة. وبالتأكيد لا تزال الشركات الأجنبية وملاك العلامات الدولية يدخلون السوق باستمرار ليأخذوا حصتهم من الكعكة، ولا تُعدم كذلك فرص المتسترين والمخالفين في استغلال هذا النشاط المغري. حتى المطاعم المحلية المتحفظة بدأت تخرج من قواقعها وتنشئ الفروع وتحسِّن من وجودها وحضورها. يعود معظم الفضل لمحفظة المواطن الشرهة والمستعدة لتجيير مجموعة كبيرة من بنود الصرف المتنوعة ــــ وربما ما يجب ادخاره في الأساس ــــ لمصلحة الأكل خارج المنزل!
لا يقتصر هذا النشاط على حركة منافذ البيع والأكل كما نراها بأعيننا المجردة، بل هناك شبكة دعم كاملة تنتعش إثر هذه الحركة، من موردي اللحوم الفاخرة والخضار المستورد وحتى مصنعي المواد البلاستيكية وورق المناديل، ناهيك عن انتعاش العقارات الملائمة لهذا النشاط والخدمات المساندة الأخرى، وبكل تأكيد سوق تأشيرات العمل! هي حلقات متتابعة متداخلة مليئة بالإغراء وكسب الفرص "للتجار" وبالإغواء وضياع الفرص "للمستهلك".
لا تعتبر الأنشطة المرافقة لخدمات تقديم المأكولات أنشطة إيجابية بالضرورة، لأنها بكل بساطة لا تصنع الأثر الإيجابي المتوقع. معظم المواد الغذائية مستوردة ــــ تصنع الوظائف في دول أخرى ــــ وجزء كبير من باقي الخدمات يدار خلف الكواليس والمكاتب الخلفية التي تعج بالمخالفين والمخالفات، في حين يغيب قطاع اللوجستيات المحترم وتغيب المعايير والمقاييس التي تمنحه الثقة التي يحتاج إليها. من ناحية المستهلك يهون كل هذا أمام المتغيرات الاجتماعية المتعلقة بهذه الأنشطة الترفيهية ويصعب التنبؤ بها.
انكشاف مجموعة كبيرة من المطاعم الفاخرة ــــ كما حدث أخيرا ــــ أمام الحد الأدنى من متطلبات الجودة يعد أمرا متوقعا في حالات النمو الفوضوية، حيث ينشط القطاع وتتعاظم أنشطته كميا ــــ وليس نوعيا بالطبع ــــ فيستنفع البعض ويتضرر آخرون دون ضامن للعدالة أو ضابط للجودة. لذا يأتي السؤال، لماذا تصبح بعض حالات النمو فوضوية إلى هذا الحد؟ بكل بساطة، تسبق عناصر العملية التجارية عنصر التنظيم، وبشكل أدق: يتأخر عنصر التنظيم عن بقية العناصر، حيث نرى اجتماع رغبات المستهلك مع قدرته الشرائية ووجود الموارد مع قدر من التنظيم يسمح بوجود النشاط، ولكنه لا يساهم في إدارته كما ينبغي. ينبئ التوقيت هنا عن حجم الفرص الضائعة والتي تكبر أحيانا عن حجم القطاع والحدود التي يمكن أن نتخيلها، ماذا لو توافقت التنظيمات الملائمة مع النشاط المتزايد؛ كم وظيفة ستصنع وكم قطاعا سيزدهر وكم ريالا سيعود بقيمته الكاملة إلى الاقتصاد الوطني!
تزدهر المطاعم الشعبية والرخيصة باحتياجات العمالة، بينما تزدهر مطاعم الوجبات السريعة والمطاعم الراقية باحتياجات المواطن والمقيم الترفيهية، خصوصا مع قلة البدائل. ومما يتخيله البعض أن هذه البدائل غير موجودة بتاتا، ولكن في الحقيقة هناك عدد كبير وباقات متنوعة من البدائل، ولكنها خاملة نسبيا بسبب إهمالها على الأرجح. النظر على سبيل المثال في أنشطة الهوايات ونموها ــــ وهو نمو فوضوي أيضا ــــ يوضح الصورة. على سبيل المثال، هناك منافسة شرسة في سوق تجهيز ملاعب كرة القدم الخاصة بالهواة، وكذلك يرى الجميع الاستغلال الإعلامي والتجاري لجماهيرية محبي اللعبة، فيزدهر تقليد ملابس الأندية ويُستثمر في الإثارة ولو تجاوزت الحدود. إذا نظرنا للرياضات البحرية نتفاجأ بتكلفة إيجار المراسي الجنونية وبيع البنادق البحرية المتوافرة في محال الغوص ولكنها في الوقت نفسه ممنوعة نظاما لتدميرها البيئة؛ والأمر نفسه ينسحب على تجارة الدراجات النارية الرياضية والاستعراضية ومعدات الرحلات وتجارة الحطب والاستراحات المتنقلة.
تتأثر فوضوية النمو بقدرة منظمي هذه القطاعات على السيطرة على البدائل وإتاحتها للمستهلك. التطور المحلي ملحوظ في قطاع الترفيه ولكن أنشطته محدودة التنوع قوية التركيز. لا نستطيع وصف التحديات النظامية التي يواجهها مقدمو الخدمات في هذا القطاع بالمحفزة، ربما تكون على العكس تماما. هذا على الأقل ما يشعر به صغار المستثمرين ولا يستطيعون تجاهله، بينما يتمكن من تجاهله آخرون كبار. استمرار النمو الفوضوي الذي يتأثر بالمتغيرات الاجتماعية يعجل بالسلبيات ولا يؤخرها، خصوصا في غياب المنظم الذي يملك النظرة الاستراتيجية الشاملة التي تحفز الأنشطة حسب ما ينفع التاجر والمستهلك على السواء. خلطة الخيارات المتاحة للمستهلك بحاجة إلى مراجعة المكونات الأساسية، إلى إعادة الضبط والتنويع، وليس إضافة البهارات فقط.