الأصل في الطائفية اختلاف آراء
لا يخفى على أحد ما للحياة المستقرة على مستوى الشعوب والأفراد من محاسن وإيجابيات. فالاستقرار في الدول يولد الأمن والأمن يولد بيئة خصبة للتطور والتنمية فلا يمكن أن تبنى حضارة والأمة في حالة حرب مع الداخل أو الخارج ولا يمكن أن تؤسس دولة والناس تشعر بالخوف من كل جانب ولا يمكن أن ينهض شعب من دون التصالح الداخلي بين الأفراد والأعراق والأديان.
ووطننا العربي يعيش أوضاعا سياسية واجتماعية صعبة فالأطفال تذبح والنساء تسبى والرجال تعتقل فقد عدنا إلى سابق عهدنا قبل بعثة الرسول محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ والسبب بسيط وهو رفض الرأي والرأي الآخر. فما الحرب الطائفية التي نراها بين شرائح الوطن الواحد إلا نتيجة رفض الرأي المضاد وعدم قبول الاختلاف حتى أصبح الفرد يقتل مواطنه ويستحل ماله وعرضه من أجل أنه يختلف معه في الرأي وهذه هي الجاهلية التي غطت على الجاهلية الأولى.
أظن أن الكثيرين يتفقون معي على أن السبب الجوهري الذي يدمر عالمنا العربي هو الاختلاف الطائفي المبني أصلا على الاختلاف في الرأي لأن المذاهب نشأت في الأصل نتيجة اختلاف آراء وليس بناء على حجة دامغة ودليل مبين. لننظر إلى العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه كيف ينعم بالاستقرار سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حتى وصلت شعوب بدأت التنمية بعدنا بعقود إلى الرفاهية الاقتصادية؟ لماذا لا توجد حروب ودمار سوى في بلاد العُرب؟ ولماذا لا يوجد مشردون ولاجئون سوى من العرب؟ لا تقل لي إنها مؤامرة دولية أو حرب صليبية أو جاسوسية حاقدة، فإن كانت كذلك فنحن الذين هيأنا لها الظروف في التواجد ومكناها من العبث بأمننا وأوطاننا.
الكل يعرف أن أهم سبب تدور حوله المعارك في منطقتنا العربية في العراق وفي سورية وفي اليمن وفي لبنان هو الطائفية البغيضة التي أشعلت النيران في الأوطان وفتتت بلاد العرب حتى أصبح نصف الأمة مستعدا لأن يبيد النصف الآخر. لننظر إلى الدول التي غاب عنها هذا التشرذم فأصبحت صفا واحدا فاستقرت سياسيا ونمت اقتصاديا وتكاتفت اجتماعيا. فهذه ماليزيا درة الشرق وبريقه التي تطمح في أن تصبح قبلة العالم في الصناعة والسياحة والتجارب الناجحة. لقد أدرك هذا العملاق الآسيوي خطر الطائفية قبل أن يبدأ التنمية وهو من أكثر البلاد تباينا عرقيا ودينيا وطائفيا.
لننظر إلى تلك الحضارة التي وقعت على معضلة نهضة الأمم مبكرا فعالجتها قبل أن تبدأ، فسدت الثغرات بين فئات المجتمع وبنت الاحترام بين الطوائف والديانات المتباينة والمتناحرة وأخرست كل صوت يقيض للفتنة مكانا حتى خمدت في مهدها وألجمت كل من ينادي بالنيل من الآخر. لننظر إلى تلك العبقرية التي ألفت بين السكان على اختلاف أديانهم وعقائدهم وأعراقهم وجنسياتهم، فلا يجرؤ الماليزي أن يعير مواطنه بدينه أو عرقه أو مكان هجرته، بينما بعضنا يصعد منبر الجمعة ويقدح ويشتم فيهيئ للحروب ويؤلب للفتن النائمة.
لقد ترك الماليزيون اختلافاتهم جانبا وبنوا وطنهم وجلبوا العالم إلى حضارتهم في عقدين من الزمن حتى لم يجد الماليزي الملاي "أهل البلاد الأصليين" الوقت ليتصيد مثالب الماليزي الهندي أو الصيني لأنه استفاد من هذا التآلف وعلم أن التناحر سيعيده إلى أيام الجاهلية والفقر والتشرد ويفقده البريق الذي يراه حتى أصبحت بلاده كعبة العالم في التنمية. كما أن المواطن الماليزي الهندي يجد في نفسه غضاضة عندما تذكره بموطنه الأصلي ولا يقبل إلا أن يكون ماليزيا، فقد أسهم في صناعة وتألق ماليزيا الحديثة ولا يربطه بموطنه الأصلي إلا بشرته السمراء ولو استطاع أن يتخلص منها لفعل.
هل تتوقع أن يقدم المواطن الماليزي المسلم على تتبع مواطنه المختلف معه؟ كل يمارس دينه بطريقته ويدعو إلى معتقده بكل وسائله، إلا أنه لا يتجرأ ويرغم غيره على قبول معتقده. لقد وعت مثل هذه الأمم مخاطر الاختلافات وضرر التناحرات والانتقاص من الغير، لذا نراها لم تسمح لمواطنيها بأن يُزجّ بهم في وحل الطائفية المقيتة التي نراها في شعوبنا العربية والإسلامية الأخرى حينما أشغلت نفسها بالطائفية وأشعلت الاختلافات المذهبية حتى أصبح أبناء الوطن الواحد يؤمنون بفرضيات لم تثبت صحتها فيظن أن الطائفة الأخرى تخطط له وتتصيد عثراته وأن المذهب الفلاني لا هم له إلا تحين الفرصة للانقضاض عليه. لقد خسرنا كثيرا من هذه الاختلافات حتى دخلت بيئتنا تيارات وجدت التربة صالحة فاستوطنتها واستثمرتها.
أيها العرب والعرب بالذات دعوكم من المبالغة في تصور خطر المذهب المخالف فلا نريد أن نحتضن الاختلافات ونصعر خدودنا لها فهذا نهج أخرق لا يبني حضارة ولا يؤسس دولة ولا يحمي مجتمعا فننشغل باختلافاتنا على حساب أمننا ونهضتنا. ولنتصور لو أن كل الشعب أصبحوا سنة أو كل الشعب أصبحوا شيعة هل ستنتهي مشكلاتنا ونكف عن الدمار والخراب وقتل الناس ونوجه طاقاتنا إلى تنمية أوطاننا وبناء حضارتنا؟ أبدا.. لا أظن ذلك.. فسنسعى لنصنع قضية أخرى واختلافا آخر تلوكه الألسنة ونقدح ونهمش ونقسم الناس إلى فئتين متناحرتين وبذلك سنقضى أنفس أوقاتنا ونعيش أجمل أيامنا من اختلاف إلى اختلاف ومن صراع إلى آخر. هذه مشكلتنا وتلك هي أزمتنا فإن تغلبنا عليها فقد بدأنا أول خطواتنا نحو الأمن والاستقرار الذي يقود إلى التنمية والبناء والعطاء.
وأريد أن أختم فأقول يجب علينا إن أردنا أن نوقف العنف والحروب والقتال والدمار أن نؤمن بالاختلاف فإن فعلنا تقاربنا وإن تقاربنا قبلنا بعضنا وإن قبلنا بعضنا بنينا أوطاننا وحرمنا الغير من العبث بها وكفانا استغفالا.