رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ورفعوا الأنفس البريئة بعضها على بعض درجات

هل حقا أن الناس سواسية؟ وهل حقا أن العدالة في الدنيا جارية؟ وهل حقا أننا كلنا بشر وقيمتنا الإنسانية واحدة؟ وهل حقا أن قتل نفس بريئة في أي مكان كقتل الناس جميعا في هذه الدنيا الفانية؟
قبل أن أدخل في موضوع شائك– وما أكثر المواضيع الشائكة التي طرحها هذا العمود– أقول إن ما وقع من أحداث مرعبة ووحشية في فرنسا، قُتل فيها الأبرياء بدم بارد دون رحمة، مدان وغير مقبول وغير مبرر وإرهاب بأقصى صوره، ولا يمكن توصيف القائمين به إلا بالقتلة والإرهابيين.
إذا كانت الأمور بهذه البساطة فما هو الشائك فيها؟ هناك ضحايا أبرياء جرى ذبحهم، وهناك قتلة أشرار تجب محاربتهم هم وأفكارهم وأيديولوجيتهم. هذا هو ببساطة الوضع وهذا ما حدث. إنها معادلة إنسانية، فيها نتعاطف وندعم الخير ونقاوم ونقاتل الشر. والخير والشر واضحان هنا وضوح الشمس.
لا يا سادتي. الإنسانية ليست فيها معادلات؛ لأنها ليست رياضيات وجبرا وهندسة. المعادلة الرياضية ندرّسها ونتعلمها، وتبقى هي بغض النظر عن المكان والقرب أو البعد ورمزية الأعداد.
المعادلة الإنسانية ليست عادلة ومتساوية النتائج. كل نتيجة لأي معادلة إنسانية يحددها القرب والبعد، وكذلك رمزية الثقافة التي نحملها.
في المعادلات الإنسانية القريب مني (عرقا أو دينا أو مذهبا أو فكرا) ليس مساويا للبعيد عني (عرقا أو دينا أو مذهبا أو فكرا). وفي المعادلة الإنسانية الرمزية التي أحملها (والدين والمذهب والأفكار والمفاهيم والثقافة والخطاب ما هي إلا رموز) أكثر قيمة ونقاء وصفاء وهيبة من التي يحملها المختلف عني.
في دراسات تحليل الخطاب نتحدث كثيرا عن النزاهة، ونضع لها معايير وأحكاما قدر الإمكان؛ كي تكون الكلمات والعبارات التي نستخدمها قريبة مما يصبو إليه البشر من عدالة، وكذلك كي نجعل من الرمزية التي نملكها مساوية لما لدى الآخر بغض النظر عن موقفنا وقيمة رمزيتنا وقربنا وبعدنا.
وهذه الدراسات تبرهن أن الرمزية ذاتها قد لا تكون متساوية القيمة لحساسيتها وأهميتها، ولهذا لا يجوز استفزاز الآخر بالاستهزاء من رمزيته؛ لأنني إن كنت أنا وبسبب التطور الإنساني (الحضاري المدني سَمِّهِ ما شئت) خرجت من "قدسية أو سطوة" ما لدي من رمزية هذا، لا يعني أن الآخر المختلف عني عليه أن يخرج أيضا من "قدسية وسطوة" رمزيته، ويقبل ما أقبله أنا وكأن شيئا لم يكن.
ولهذا يحق لدارس الخطاب ومحلله إثارة قدر كبير من الأسئلة؛ كي يضع الحدث ضمن سياقه الإنساني السليم الذي لا يقبل أن يرى الدنيا كلها من خلال عينيه، ويحكم عليها من خلال ما تراه ضمن مفهوم القرب والبعد ومفهوم الرمزية.
ولا أعلم إن كان للدراسات التي ننشرها تأثير في الإعلام الغربي، ولكنني لاحظت ضوءا في آخر النفق المظلم، ونحن نسبح في طوفان من التقارير والكتابات والتعاليق والبث المباشر الذي لم ينقطع سيله، ولربما ضاق العالم به في تغطيته للضحايا الأبرياء للعمل الإرهابي الذي وقع في فرنسا.
كانت هناك تقارير رصينة في أمهات الصحافة الغربية ووسائل إعلامها، تثير أكثر من سؤال حول لماذا وكيف نبرر من الناحية الإنسانية والأخلاقية الاهتمام الكبير من الدنيا أجمعها بإعلامها وسياسييها وحكوماتها ورجال دينها بهؤلاء الأبرياء من الفرنسيين، ولا يكترث أحد ولا يذرف أحد دمعة للآلاف المؤلفة من الأنفس البريئة التي تسقط غدرا وبالأدوات الإرهابية ذاتها أو غيرها (الإرهاب واحد، ولكننا نصنع منه درجات تمشيا مع مفهوم القرب والرمزية) التي فتكت بـ17 بريئا في فرنسا.
وهل في الإمكان أن نسأل: لماذا لا يقوم زعماء العالم وحكوماته وإعلامه في الشرق والغرب بمسيرات تعاطفا ودعما لعشرات أو ربما مئات من الأنفس البريئة التي تسقط يوميا في دول عربية أو إسلامية وبأدوات إرهابية مشابهة أو مختلفة لما وقع في فرنسا؟
والسؤال الذي أثاره بعض المفكرين من الفرنسيين أنفسهم، وكذلك ردده كبار الكتاب في بريطاينا وأمريكا، يخص دور فرنسا ذاتها ومعها الدول الغربية الأخرى في إذكاء نار الإرهاب في الشرق الأوسط، من خلال التدخلات العسكرية التي لم تجلب لشعوب المنطقة غير الويلات، وأخيرا هي ذاتها اكتوت بنارها.
الحديث ذو شجون، ولكننا كبشر وعلى الرغم مما وصلنا إليه من تقدم نبقى متخلفين عن ركب إنسانيتنا ما دمنا نضع أبرياء قوم في أعلى سلم القيمة الإنسانية، وأبرياء قوم آخرين في قعر السلم الذي لا يكترث له حتى أصحابه، ولكنهم لسبب ما يكترثون كثيرا ويقلقون للأبرياء في أعلى السلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي