ذات رسالة خالدة
من الشعارات التي يطرحها حزب البعث العربي الاشتراكي، سواء عبر وسائل الإعلام، أو في أدبياته وفي اللافتات في الشوارع، أو في المنتديات، والمؤتمرات عبارة "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، ومضت عقود والحزب بجناحيه في دمشق وبغداد يلوك زعماؤه، والمنتفعون منه، أو المغلوب على أمرهم هذه العبارة، ويرددونها كما تردد الببغاء ما تسمعه من أصوات حولها.
كما كان من الشعارات الزائفة وحدة، حرية، اشتراكية، لكن الشعار الأخير كان محل خلاف بين جناح الحزب في بغداد، والجناح في دمشق، إذ إن محل الخلاف، هل نبدأ في الوحدة، ثم الحرية، ثم الاشتراكية، أم أن الحرية مقدمة على الوحدة، حتى إن الموضوع تحول إلى نقطة خلاف رئيسة.
مع أن الحزب جثم على عاصمتي الخلافة دمشق، وبغداد لعقود طويلة تخللها الكثير من الانقلابات، والاضطرابات إلا أن التطبيق لهذه الشعارات على الأرض لم يكن له نصيب، وإنما للاستهلاك الداخلي لتخدير الشعوب التي تحلم بالحرية، ولم تذق طعمها، وتحلم بالوحدة، ولم تسلك الأنظمة الطريق الصحيح إليها.
هذه الشعارات تحولت إلى مادة خلاف، ومماحكات سياسية، وإعلامية. الغريب في الأمر أن الاشتراكية، وهي أحد مكونات الشعار وجدت الطريق للتطبيق، حيث أقدم الحزب في بغداد، وكذلك الحزب في دمشق على فرض المبادئ الاشتراكية، وسن الأنظمة، والقوانين التي تجذر، وتؤسس للفكر الاشتراكي، وأصبحت تعقد المؤتمرات لهذا الموضوع، وتؤلف الكتب، ويدرس الفكر في الجامعات، والمعاهد العليا، وما دون ذلك من مراحل التعليم، بل إن الأمر امتد إلى إعداد ما يسمى بشبيبة الحزب، إذ يتم تعبئة العقول بالفكر الحزبي المتشبع بالمبادئ الاشتراكية الرنانة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع في مراكز خاصة لهذا الغرض.
القوانين والنظم الاشتراكية التي سنت وفرضت طال تأثيرها الكثير من مجالات الحياة خاصة الاقتصاد، حيث تسببت القوانين الاشتراكية في الحد من الأنشطة الاقتصادية الفردية، وضمر الإبداع، وانحسر الإنتاج لافتقاد المحفزات الفردية، وطغيان الهيمنة الحكومية على المناشط الاقتصادية، واحتكارها، ولذا تراجع الإنتاج، وقلة الفرص، وكثر الفقر.
الوحدة على المستوى العربي، التي كانت شعارا خدرت به الشعوب، ولم تكن هدفا توضع له البرامج لم يتحقق حتى على الصعيد الداخلي لكل بلد، إذ كشفت الأحداث الأخيرة في كلا البلدين عن تصدع اجتماعي، وخلل في البناء النفسي، ما لبث أن كشف الحقيقة حيث التمزق الاجتماعي، وبروز الانتماء لمكونات اجتماعية ضيقة بدلا من الانتماء الوطني الأشمل، حتى تحولت ساحات الأوطان إلى احتراب، واقتتال ليس بين مكونات المجتمع الأكبر، بل بين المكونات الصغيرة حتى تجزأ المجزأ وتقسم المقسم إلى الجزيئات الأصغر.
السؤال الجوهري في هذا الشأن أين الخلل؟ هل في الفكر الحزبي، وما يحمله من أطروحات، أم في التطبيق؟
في اعتقادي أن الخلل في الفكر من أساسه، فالفكر غريب على البيئة العربية الإسلامية، خاصة الفكر الاشتراكي، وليس مفهوم الحرية، والوحدة، فالإنسان بطبعه يعشق الحرية، ويسعى إليها، فكيف بشعوب دينها يؤكدها، كحق مشروع "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، أما الوحدة فهي هدف، الكل يتمناه ويتطلع لليوم الذي تتحقق فيه، ولذا فإن الإخفاق في تحقيق الحرية والوحدة كان بسبب أن القائمين على الأمر في كلا البلدين لم تكن الحرية، ولا الوحدة هدفا يسعى لتحقيقه، وإنما شعارا تحرك به الشعوب لخدمة أهداف شخصية وفئوية.
إن ما نشهده في العراق وسورية من فوضى، وضياع للأمن ما هو إلا نتاج فكر ذي نبتة مريضة في أساس تكوينها، لأنها تتعارض مع الفطرة البشرية التي على العمل من أجل الاكتساب والتملك، وهذا ما لم يكن متضمنا في الطرح النظري ولا في التطبيق لمبادئ الاشتراكية، التي فرضت على الناس قسرا، وحرمتهم من ممارسة أدوارهم الطبيعية بالقوة والقهر. إن الرسالة التي تحققت ما هي إلا ضياع، وفوضى، وفقدان أمن، وتشتت وتدمير للإنسان والأوطان.