ما أجمل المصالحة بين الوطن وأبنائه
الأسرة تتألم بقسوة، عندما يُصاب أحد أعضائها بمكروه، أو يشذ عن الطريق الصحيح، أو يُغرر به أصحاب الشر والفكر المنحرف، ليس هذا فحسب، بل يعكر صفو حياة أفرادها، ويختطف سعادتهم، ويحد من تطلعاتهم، ويؤثر على سمعة الأسرة في المجتمع، ومن ثم يبذلون الغالي والنفيس لعلاجه وإصلاح حاله. وأحياناً تنجح المساعي ويعود شخصاً صالحاً وعضواً فاعلاً في الأسرة، لكنه في بعض الأحيان يعود إلى إدمانه أو عصيانه أو انحرافه أو عقوقه!
والمجتمع هو صورة مكبرة للأسرة بمكوناتها وعلاقاتها بوحدات المجتمع الأخرى. لذلك فإن المجتمع الإنساني بوجه عام، والإسلامي بوجه خاص، ينبغي أن يكون رحيماً بأفراده، وصادقاً في تعامله معهم، وجاداً في تمكينهم وتنميتهم وبناء قدراتهم الذاتية، ومخلصاً وإنسانياً في إصلاحه لهم. فأمنهم الغذائي والمائي ضروري لبقائهم وتنمية وطنهم، ولكن لا يمكن تحقيق ذلك دون أمنهم الفكري وصلاحهم الديني، بعيداً عن التطرف والانحراف الفكري.
لقد تشرفت مع بعض الزملاء بزيارة مركز محمد بن نايف للمناصحة قبل أيام، فأدهشني ما رأيت، وأسعدني ما سمعت من القائمين عليه. لقد لمست صدقاً في القول، ورقياً في التعامل، وحرصاً على المجتمع وأبنائه، وليس هذا من باب المجاملة أو "التطبيل" كما يُقال، بل رصد صادق لمشاهداتي واستنتاجاتي الشخصية دون زيادة.
فأقول بقناعة إن هذا المركز هو مركز "إنساني" يسعى – بجدية - إلى تحقيق الأمن الفكري في مجتمع يطبق الوسطية والاعتدال فكراً وسلوكاً، وكذلك الإسهام في وقايته من الأفكار المنحرفة، وإصلاح الأفراد الذين اختطفتهم دوائر التشدد والانحراف الفكري. وقد حقق نجاحاً واضحاً، إذ لا يزيد معدل العود إلى الانحراف الفكري على 12 في المائة من جملة المستفيدين، وهذا معدل معقول، بل جيد، قياساً على معدلات العود للجريمة في كثير من الدول.
وتجدر الإشارة إلى أن المركز يقدم برامج متعددة، وبيئة محفزة، ودعما ماديا ومعنويا أثناء المناصحة وبعدها. فبرامج المناصحة تشتمل على الجوانب الشرعية والنفسية والاجتماعية والتعليمية، وكذلك التأهيل والرعاية لإكساب المستفيد المهارات التي تسهم في إعادة إندماجه في المجتمع، والتكيف مع البيئة المحيطة به.
وقد اشتمل برنامج زيارتنا المركز على لقاء مع المسؤولين، واطلاع على مرافق المركز، وكذلك مقابلة بعض المستفيدين السابقين وسماع آرائهم ومعرفة أحوالهم بعد الخروج من المركز، وعلمنا أن بعضهم انضم إلى الجامعات ومراكز التدريب بمساعدة المركز، وحصلوا على شهادات جامعية، ومن المثلج للصدر أن بعضهم يطمح في إكمال دراساتهم العليا والإسهام الفاعل في بناء الوطن. وقد استطاع المركز مساعدة هؤلاء ليكونوا نماذج مفعمة بالحيوية والأمل.
ولكن ما استوقفني هو إشارة بعضهم إلى أن من أسباب خروجهم ومشاركتهم في العراق وسورية هو التأثير عليهم من قبل أطراف خارجية وداخلية، ترغبهم في الاستشهاد والفوز بالحور العين، مع تحقير للحياة وشؤونها، بل وصفها بأنها "سجن المؤمن وجنة الكافر"، مع العلم أن الإسلام يدعو إلى عمارة الأرض، قال تعالى: }هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا {«هود: 61»، وكما ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه- وسلم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".
ختاماً، فإن مركز محمد بن نايف للمناصحة صرح وطني إنساني يستحق الدعم والشكر والثناء، ويقوم بدور عظيم لحماية شبابنا من التطرف ويسهم في إصلاح من غرر به وانضم إلى بعض الفئات التي تدعو إلى التشدد والتطرف الديني، ولكن لا يمكن للمركز أن يُصلح الخلل وحده، بل لا بد من البحث الجاد عن أسباب الخلل، ومن ثم تضافر جميع مؤسسات المجتمع لإصلاحه، بمعنى آخر لا تكفي معالجة أعراض المشكلة، بل لا بد من التعرف على جذورها والبحث عن الحلول الناجعة، من خلال ثلاث مؤسسات رئيسة هي: المؤسسة التعليمية، والمؤسسة الدينية، وكذلك الأسرة. وأخيراً أدعو لهذا المركز وللقائمين عليه بالتوفيق.