رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ثقافة الأعمال الاجتماعية الهادفة ومثال عالمي رائد

نستخدم تعبير أعمال Business عادة لنعني نشاطات مختلفة ذات طبيعة اقتصادية تشمل منتجات أو خدمات تهدف أساسا إلى تحقيق أرباح تؤدي إلى تنمية ثروة أصحابها؛ وربما تسهم أيضا كنتيجة مضافة في تشغيل الأيدي العاملة والحد من البطالة. وهناك تعبير آخر يرتبط بالتعبير السابق هو "الأعمال الاجتماعية" Social Business ودلالاته كسابقه نشاطات ذات طبيعة اقتصادية؛ لكن الغاية الرئيسة هنا ليست الأرباح وتوليد الثروة لأصحاب هذه الأعمال، بل خدمة أبناء المجتمع. ويشمل ذلك تشغيل أكبر قدر من الأيدي العاملة تشغيلا فاعلا منتجا يعود عليها بالنفع والحياة الكريمة، وعلى المجتمع بالاستقرار والأمان. وتعطي مثل هذه الأعمال عادة فوائد اقتصادية مضافة؛ لكن هذه الفوائد لا تذهب إلى تنمية ثروة أصحاب الأعمال، بل تستثمر في مزيد من الأعمال الاجتماعية لما فيه خير المجتمع وأبنائه.
وتحتاج "الأعمال" بشتى أنواعها في عصر المعرفة الذي نعيش فيه إلى "الابتكار التقني" الذي يسعى إلى تقديم منتجات وخدمات متجددة تعطي "قيمة" تحقق له عوائد مرضية. ولا تحتاج "الأعمال الاجتماعية" إلى مثل هذا "الابتكار التقني" فقط، بل تحتاج أيضا إلى "ابتكار اجتماعي" يوجه "الابتكار التقني" ويقوده هادفا خدمة أبناء المجتمع على أفضل وجه ممكن. ونحن، بلا شك، نحتاج في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى كل من هذين الابتكارين التقني والاجتماعي من أجل العمل على بناء مجتمع معرفي قادر على العطاء، وعلى التفاعل مع متطلبات العصر.
ولعله من المفيد في طرح مسألة "الأعمال الاجتماعية"، و"الابتكار" المطلوب لتفعيلها، أن نقدم مثالا عالميا رائدا ومعاصرا حول ذلك، نستلهم منه كيف يكون هذا الابتكار، ونتحفز من خلاله نحو تقديم أعمال وابتكارات مفيدة في المستقبل. المثال العالمي الرائد هنا هو ذلك المشروع الذي أطلقه ورعاه "محمد يونس" الرجل البنجالي المسلم الذي أفاد بمشروعه قطاعا كبيرا من السكان في بلده "بنجلادش"، الذي راح يمتد به إلى أماكن أخرى حول العالم. وقد حاز هذا العمل إعجاب العالم وتقديره، حيث نال صاحبه جوائز عالمية عدة بينها "جائزة نوبل للسلام لعام 2006م".
صاحب الابتكار محمد يونس درس في بلده حتى مستوى درجة الماجستير في الاقتصاد، ثم أكمل دراسته ونال درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات الأمريكية. وبعد عودته إلى بلده أصبح أستاذا للاقتصاد في إحدى جامعاتها، واهتم بالأوضاع الاقتصادية للفقراء القادرين على العمل والإنتاج، ولكن بلا أعمال تؤمن لهم الحياة الكريمة التي يتطلعون إليها. وهنا انطلقت لديه فكرة الابتكار الاجتماعي التي قادته إلى "أعمال ناجحة" تستهدف خدمة المجتمع وأبنائه.
وقد بين يونس في حفل منحه درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة ديوك، ذات السمعة العالمية المرموقة، عام 2010م، أن ما رآه من أوضاع بلده في منتصف السبعينيات من القرن الماضي جعله يركز اهتمامه على ضرورة الاستثمار في الإنسان القادر على العمل والعطاء، ولكن المحروم جزئيا أو كليا من ذلك. وقال في هذا المجال إنه اتجه لذلك نحو عالم المصارف والاستثمار المربح، ولكن بعقلية جديدة مختلفة.
فالمصارف المعتادة تهتم بالأغنياء وأرصدتهم المرتفعة، وتركز على تمويل المشاريع الكبرى ذات العوائد المجزية. أما هو فقد اهتم بالفقراء والأقل حظا، وركز على مبدأ "التمويل الأصغر والرصيد الأصغر" Micro-financing & Micro-credit لهؤلاء الناس؛ أي تقديم قروض صغيرة والتعامل مع أرصدة صغيرة تناسب إمكانات قطاع كبير من الناس. واستطاع تنفيذ هذه الفكرة بالفعل، وأسس مصرفا لهذه الغاية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي هو بنك جارمين Garmeen Bank الذي يعني "بنك القرية".
وقد توسعت أعمال هذا البنك وأعداد المستفيدين منه تدريجيا حتى وصل عدد المتعاملين معه بعد نحو عشرين عاما على إنشائه إلى أكثر من "سبعة ملايين". ولم يكتف هذا البنك بذلك بل أقام شركات ومؤسسات تعليمية غير ربحية في مجالات أعمال ناجحة تعمل على توظيف الأيدي العاملة والاستفادة منها وتمكينها من تأمين حياة اجتماعية كريمة. ويتوسع محمد يونس في عمله الآن على الرغم من بلوغه منتصف السبعينيات من العمر، وشعاره في ذلك تفعيل "الأعمال الاجتماعية" Social Business. ويزين هذا الشعار موقعه على الإنترنت "مركز يونس".
لا شك أن الأفكار الهادفة والأعمال المتميزة التي قدمها يونس أعطت قيمة اقتصادية كبيرة موجهة نحو غايات اجتماعية وصلت إلى قطاع كبير من المستفيدين؛ وتستمر في الوصول إلى المزيد منهم عبر توسع تدريجي مشهود. وتجدر الإشارة هنا إلى حقيقة أنه إذا كان محمد يونس هو صاحب الابتكار الاجتماعي المتمثل في "التمويل الأصغر والرصيد الأصغر"، فإن تنفيذ هذا الأمر وإطلاق الأعمال الاجتماعية على أساسه ليس من صنعه وحده. فلا شك أن كثيرين مدوا له يد العون، وأدركوا أهمية الفوائد الاجتماعية المنشودة، وأسهموا في تحويل الأرباح التي كانت تجنى نحو مزيد من التوسع في خدمة المجتمع والاستجابة لمتطلباته.
إن مبدأ "الأعمال ذات الأهداف الاجتماعية" يحاكي في بعض شؤونه المثل الشهير القائل "لا تعط المحتاج سمكة، بل علمه كيف يصيد السمك". في ذلك تكافل اجتماعي إيجابي لأن العون المقدم للآخرين هنا إيجابي، فهو ليس هبة تعطى وتنتهي، بل تحفيز لعمل جار قابل للاستمرار والازدهار، ودعم لبناء مجتمع متضامن مترابط كجسد واحد. وقد حثنا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- على التكافل والتضامن بقوله "خير الناس أنفعهم للناس"، وبقوله أيضا "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
لا شك أن هناك من حولنا أعمالا كثيرة ذات أهداف اجتماعية، لكننا نحتاج إلى المزيد منها. فالثروة الرئيسة في حياة الإنسان هي الإنسان ذاته. وهذه الثروة متوافرة لدينا، بل هي من خلال انتشار التعليم على نطاق واسع في مختلف التخصصات وعلى مختلف المستويات ثروة تتمتع بجودة عالية. وما نحتاج إليه هو تفعيل هذه الثروة. ويحتاج هذا الأمر إلى "أعمال اجتماعية" توجهها ابتكارات اجتماعية وتعززها ابتكارات تقنية. وقد لا تكون مثل هذه الأعمال الأكثر ربحية على الصعيد المادي، لكنها الأكثر فائدة للمجتمع وأبنائه. من هذا المنطلق يحتاج المجتمع إلى ثقافة الأعمال الهادفة اجتماعيا، يحتاج إلى فكر أبنائه المتميزين وإلى عملهم، من أجل جميع أبنائه وتطلعاتهم نحو مستقبل متطور دائما نحو الأفضل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي