من «صحتك رأسمالك» إلى رأسمالية الصحة
لديه اجتماع مسائي مهم، وقبل ذلك موعد أهم في المستشفى. تأخر عن الاجتماع بسبب ازدحام المستشفى وفوضى عياداتها فاستهل لقاءه معبرا عن امتعاضه: "مستشفياتنا اليوم إما ضخمة ومشيدة بطريقة رائعة.. ولكنها استغلالية، أو عشوائية متواضعة.. ولكنها استغلالية أيضا!".
إن صح التعبير، حظي القطاع الصحي في السنوات الأخيرة بثورة في تنظيماته وإمكانياته ولكن بالنسبة للمريض وهو المستفيد الأول والأهم، ازداد الشعور بالقلق.
المريض هو أداة التقييم الأهم لقطاع الصحة، مشاعره عبارة عن شهادة أداء موثوقة وتعبيراته براهين صادقة ومتاعبه تجارب ميدانية حقيقية.
لا يتضايق المريض اليوم من الازدحام فقط، بل يشعر بقلة الاهتمام النفسي والعاطفي ــــ وربما الازدراء والتجاهل أحيانا، وهو في أشد حالاته تحقيقا للعبارة الساخرة التي تقول: "مهنة الإنسانية تنقصها الإنسانية". يواجه المريض محليا الحلول الجراحية أكثر من البدائل الأخرى، يتعب من فوضى المواعيد وتعقيد أسلوب العلاج ــــ وكثرة الأدوية والتحاليل ـــ ويتضايق من التمييز الخطير جدا بين العيادات والأطباء؛ يصل التمييز أحيانا إلى مطالبة بعض العيادات بعلاوة Premium تأخذها فوق تغطية التأمين إن رغب المريض في زيادة الطبيب الجيد الذي يُنصح به!
من الملاحظات العجيبة أن موردي الأدوية يزاحمون المرضى في بعض الأيام على أبواب العيادات، وإلى وقت قريب كان بعض الأطباء يستخدم أختاما معدة مسبقا بأسماء الأدوية المتداولة بكثرة. وعلى الرغم من وضوح التنظيمات والمطالبات المتعددة لا تزال الصيدليات تقدم العلاج بطريقة مباشرة ومستقلة، وإجرامية أحيانا.
تعاني شركات التأمين الصحي عموما تحديات كثيرة مثل ازدياد معدل الأعمار والمتغيرات المفاجئة ـــ كالأوبئة ــــ إضافة إلى غياب نموذج الدعم والتنفيذ الحكومي الأمثل الذي يحقق مصالحها. تتزايد محليا هذه التحديات في بيئتنا التي لا تزال ناشئة وتعيش تحت ضغط الاحتياج العالي والوعي المتدني ونقص الكفاءات على الرغم من توافر الأموال، والأخيرة بالطبع لن تكون بديلا للعقول والجهود. بل إن العقول والجهود هي الأداة الأهم التي تسمح بتحويل الميزانيات الضخمة إلى نتائج حقيقية وإلا أصبحت الأموال مثل أسراب الساردين التي تلاحقها الطيور السارقة، مصيرها الزوال بالكامل.
هذه المشاهد مفزعة، فالمستشفيات الحكومية لديها عيادات خاصة بمقابل، وشركات التأمين الصحي خاسرة، والمستشفيات الخاصة الكبرى تحولت إلى إمبراطوريات ضخمة بكلياتها التعليمية ومدنها السكنية، بل باتت تستحوذ على الشوارع والمساكن بجوارها! مبان متواضعة ومستشفيات بلا مواقف تعج بآلاف الزائرين وبالمقاهي ومحال الهدايا وتصنع الضوضاء على حساب الجيران والسكان، ناهيك عن تدني متطلبات السلامة وتعريضها يوميا حياة الآخرين للخطر.
لا تجد الكوادر الصحية المواطنة "النادرة" فرص العمل المرضية بينما تستقدم الكوادر الأخرى المتواضعة بالجملة. يعمل الطبيب السعودي الشاب في مستشفى عالمي في أمريكا أو ألمانيا بينما الطبيب السعودي الخبير يعمل في ثلاث عيادات في ثلاث منشآت صحية مختلفة في الأسبوع نفسه، أو يمارس الإدارة أكثر من الطب.
لا يشعر الكثيرون بمشكلة القطاع الصحي لأن مقدمي الخدمات يتبعون لعدة جهات مختلفة، عند كل تقييم يحذف جزء كبير من المشهد. تستقبل بعض المستشفيات على مدار العام آلاف المواطنين والمسؤولين الذين لا يستشعرون الواقع ولا يؤثرون في تشكيل الانطباعات والقرارات المتعلقة ببقية مقدمي الخدمات الصحية، مع أن البقية هنا هم الأساس.
قد تجد قطعة من الرخام منصوبة في مدخل أحد المستشفيات عليها ميثاق للشرف يسرد القيم التي تضع المريض أولا؛ لكن في الواقع لا تعمل خاصية التنظيم الذاتي Self-regulating لمواثيق الشرف والرسائل والأهداف بهذه السهولة، ومثل ذلك بقية الوعود والبروباقندا الإعلامية. الحقيقة تقول إن الأهم هو وجود حوافز وعقوبات وأسس واضحة تحوكم كل العلاقات المهمة وتحفظ المقاصد وتحقق الأهداف وبالتأكيد تصنع النتائج التي يستشعرها الجميع على أرض الواقع، وهذا يعني بكل بساطة إدارة جيدة وقيادة مؤثرة.
يعتقد البعض أن الرأسمالية المزعجة تقبع في أروقة الشركات الكبرى فقط ــــ بما فيها المستشفيات الخاصة ــــ ولكن حتى المنشآت الحكومية وغير الربحية تتأثر بالمستنفعين الماديين ولو كانت أشكالها النظامية لا تدر الربح. بل إن إعادة صياغة منتجات التأمين وحتى آليات الاستقطاب والتوظيف قد تتحول إلى مخالب للرأسمالية إن لم يوضع المريض أولا، إن لم يكن فعليا على رأس قائمة المستفيدين الذين يعمل بقيتهم لمقابلة احتياجات هذا المريض؛ حينها تتحول الصحة وهي رأسمال الإنسان وتاجه الأغلى إلى رأسمالية بشعة تقضي عليه قبل أوانه.