هل ينفع النظام العلماني العرب ودولهم؟
هناك كم هائل من المطبوعات والمعرفة العلمية والأكاديمية حول مفهوم العلمانية كفكر وممارسة. العلمانية كنظام حالة قائمة في كثير من الدول والدساتير لا سيما في الغرب.
العلمانية شأنها شأن أي مفهوم أو فكر أو ممارسة أخرى لها مناصروها ومعارضوها، ولكن بصورة عامة فإن المعارضة الشديدة لها كممارسة دستورية لم تأت إلا من المؤسسات الدينية في الغرب.
وحالها حال أي فكر آخر لم تستطع العلمانية تثبيت أركانها إلا بعد جهد جهيد وتضحيات هائلة، وأظن أن أي مطلع على تاريخ أوروبا على دراية بما مرت به من تنقية وتطهير حتى وصلت إلى وضعها الحالي الذي أستطيع القول إنه مقبول من الأغلبية الساحقة من شعوب الدول التي تتخذ العلمانية نبراسا وتعزو إليها مدنيتها وتطورها وأخلاقياتها.
العلمانية حسب روادها ومريديها همها البعدان الإنساني والأخلاقي ـــ بمعنى آخر لا يجوز قبول أي أمر يتجاوز أو ينتهك حقوق الإنسان وأخلاقية وجوده وإنسانيته بحجة الدين والمذهب والنصوص التي يراها أصحابها مقدسة.
أولى ضحايا العلمانية في الغرب كانت الكنيسة، حيث فقدت سطوتها المؤسساتية وتدخلها في الشؤون الدستورية وتمشية أمور المجتمع وتلبية احتياجاته. أنهت العلمانية دور رجال الدين المسيحيين وكنائسهم وصاروا أناسا عاديين شأنهم شأن بقية أفراد المجتمع، وغدت مؤسساتهم الكنسية بمثابة النقابات لها من الحقوق والواجبات ما لنقابة المعلمين أو المهندسين أو الأطباء أو غيرهم من الحقوق والواجبات.
إن أخذنا الدول الاسكندنافية مثالا لأقصى ما وصلت إليه العلمانية من تطور في الفكر والممارسة، لرأينا أن الدولة كنظام ومؤسسات صارت بعيدة كل البعد عن المفهوم الديني، لا بل لا تتقرب صوبه وتحاول تجنبه بكل تفاصيله، وتسن قوانينها وتقوم بتمشية أمورها من سياسية واقتصادية وتعليمية وتربوية وصحية ومالية وفي جميع مناحي وتفاصيل الحياة وكأن الدين وكتبه لم يكونا.
من خلال المنظور العلماني الدولة ترى أولا وأخيرا أن الكل بشر متساوون في الحقوق والواجبات لا يتقدم الواحد على الآخر ولا يجوز أن يتقدم لأن دينه كذا أو مذهبه كذا أو كتابه صحيح أو كتابه باطل. القياس هو الإخلاص في العمل والأخلاق الإنسانية والبعد الإنساني الذي يسمو على الفروق الدينية والمذهبية وأهمية النصوص وسماويتها أو عدمه.
ومن أسوأ السيئات أو أبغض الأشياء في السويد مثلا أن تسأل شخصا عن دينه أو مذهبه أو تطلب منه أن يتحول من دين إلى آخر أو مذهب إلى آخر.
لا أريد أن أقيّم النظام العلماني ولكن أترك شأن ذلك لقرائي الكرام. وآمل ألا يساء الفهم لأن قصدي هو الأشخاص والممارسة وليس الدين ذاته، الذي يجب أن يكون نعمة للبشر ويجعل منهم أناسا صالحين ذوي خلق إنساني حسن أكثر بكثير من اللا دينيين.
النظام العلماني علّم السويد مثلا ألا تنظر إلى هوية الشخص أو لونه أو ألفاظه أو عباداته كي تكتشف ما هو دينه أو مذهبه وتقرر ما يستحقه بموجب ذلك. وهكذا عندما يتقاطر اللاجئون إليها بالمئات كل يوم من سورية والصومال وأفغانستان لا علاقة لها بدينهم ومذهبهم. العلمانية علّمت السويد أن تنظر إليهم كبشر وتعاملهم كبشر وتقرر ما لهم وما عليهم كبشر.
ولكن هل السويد مثلا دولة ضد الدين أو بعبارة أخرى هل العلمانية تضادد الدين؟ المفهوم الشائع في الشرق الأوسط أن العلمانية ضد الدين وهنا الخطأ الكبير.
أتباع أي دين أو مذهب ــــ سماوي أو غيره ــــ لهم الحرية الكاملة في العبادة وإقامة الشعائر الدينية. المسلم له الحق في العبادة وممارسة الدين كما المسيحي أو البوذي أو الهندوسي أو غيره. المسلم من حقه أن يمارس نصوصه المقدسة وكذلك المسيحي، ولكن ليس من حق أي منهم أن يفرضها على الآخرين أو يتصرف بموجبها تجاههم، أو يجعلها ضمن الدستور والقوانين المرعية.
إنني أرى أن الكثير من المسلمين والمسيحيين أو أتباع الأديان الأخرى من الشرق العربي الموجودين في السويد لهم حرية لا تقاس أبدا بالظلم الذي كانوا يقبعون تحته عندما كانوا في بلدانهم الأصلية، لأنهم يمارسون دينهم ومذهبهم وطقوسهم وشعائرهم بحرية لم تكن متوافرة لهم في أوطانهم.
هل ينفع النظام العلماني للدول العربية؟ أترك شأن ذلك للقراء وقد أعرج عليه في الأسبوع القادم.