هل نبحث في أعماق تربيتنا؟
عندما يواجه أي مجتمع مشكلة من المشكلات بغض النظر عن طبيعة هذه المشكلة، ومجالها سواء كانت اجتماعية، أو اقتصادية، أو أمنية، أو سياسية فإن القائمين على المجتمع من قادة سياسيين، ومن قادة فكر، ومن اقتصاديين، ومن علماء نفس، واجتماع يطفقون في البحث عن حلول يتم بها تجاوز هذه المشكلات والخروج بالمجتمع إلى شاطئ الأمان.
تبذل الجهود، وتنفق الأموال الطائلة، ويستعان بالخبرات الأجنبية، وتستخدم القوة في سعي لإيجاد حل للمشكلة أو المشكلات حسب طبيعتها، لكن هذه الإجراءات جميعها قد لا تجدي نفعاً، ويظل المجتمع يراوح مكانه مع المشكلة، ومثله في هذا الوضع مثل من يعاني مرضا مزمنا، ما إن يستريح لفترة قصيرة إلا ويعاني مرة أخرى، وهكذا تستمر المعاناة لأنه لم يتم الوصول إلى الوصفة، والعلاج المناسب.
الأس الذي يشكل جذراً مشتركاً لكل المشكلات في أي مجتمع مهما كان مجالها التربية، فالتربية بما تحقنه من فكر، وبما تغرسه من قيم، وبما تشكله من بناء أخلاقي، وما يكتسب من مهارات إضافة إلى الاتجاهات التي تبنيها التربية في مناشطها كافة يكون السلوك، والإنتاج سواء بصورة جيدة، أو بصورة رديئة. الاقتصاد القوي والمتنوع المجالات لا يأتي إلا بفكر اقتصادي نير يتمكن من استثمار المصادر الوطنية المتوفرة، أو إيجاد مصادر من شأنها بناء اقتصادي قوي، كما في حالة الدول عديمة المصادر الطبيعية، حيث اتجهت إلى اقتصاد المعرفة، وبه تمكنت من منافسة دول أخرى تتوافر لها مصادر طبيعية ضخمة.
دول كثيرة يوجد فيها مصادر طبيعية ضخمة، لكن الشعب فقير، والسبب يعود إلى عدم استثمار هذه المصادر، أو سوء استثمارها بسبب عدم توافر الكفاءات المؤهلة، أو الفساد الذي ينخر بالمجتمع، ما يفقد المجتمع فرصة الاستفادة من المصادر الاقتصادية. المشكلات الاجتماعية بما فيها الانحرافات الأخلاقية، والانزلاقات الفكرية تمثل إحدى المعضلات التي تعيق التنمية، والتطور، ولا يمكن معالجة الوضع ما لم تخضع التربية في المجتمع لعملية تحليل، واستكشاف لواقعها، بغض النظر عن القناة التربوية، سواء كانت رسمية، ممثلة في المدارس، والجامعات، والمعاهد العليا، أو منزلية، أو عامة تتمثل في الثقافة العامة، وما تبثه وسائل الإعلام، ويسهم في تشكيل العقول وطريقة التفكير وإدراك الأمور.
مهارات أفراد المجتمع، والفكر الذي يحملون، إضافة إلى اتجاهاتهم نحو بعضهم البعض، أو اتجاهاتهم إيجابية كانت أو سلبية نحو الأنشطة والمهن، في الأغلب هي التي تصنع الفرق في واقع المجتمع، سواء في الاقتصاد، أو في العلاقات بين المكونات الاجتماعية كافة، وما يترتب على ذلك من استقرار وأمن، التي تتأثر في الأفكار التي يحملها أفراد المجتمع وقد تكون هذه الأفكار غير صحيحة. المخزون التربوي يمثل مرجعاً مهماً لا بد من معرفته بعمق، والوقف على إيجابياته، وسلبياته بهدف تنقيحه وغربلته ليكون نقياً من الشوائب كافة التي علقت به نتيجة اجتهادات فردية، أو الاعتماد على مصادر غير موثوقة، لكن مع الزمن اكتسبت صفة القداسة، ولذا تأثيرها قوي في الأفراد خاصة محدودي العلم، والثقافة، والمندفعين لخدمة مشروع يفترض أن يتبناه هؤلاء.
قصيدة، أو حتى بيت شعر، أو قصة قد تحدث انقلاباً في فكر الفرد، وفي شخصيته وتحوله إلى فرد طموح يمتلئ نشاطاً وحيوية، يكسر حواجز الخوف والتردد، في حين أن فرداً آخر قد يسمع من والده، أو مدرسه كلمة جارحة تستمر آثارها المدمرة فيه طوال حياته، فالمثل القائل، الذي يحلو لكثيرين تكراره أمام أبنائهم، أو مع طلابهم في مناسبة، وغير مناسبة يثبط الهمم، ويوجد أعذاراً للباحثين عنها.
إن ما نشهده من خلو أو انحسار للسعوديين في بعض مجالات العمل ما هو إلا نتاج تربية ترسخت مع الزمن وأصبحت جزءاً من الفرد تلازمه في حياته، وتؤثر في اختياراته المهنية، وهذا ما يشاهد في سوق العمل حيث يفضل البعض مهناً محدودة الدخل على مهن أخرى عالية الدخل لكن النظرة الاجتماعية لها غير مشجعة.