الدرس من طرح فوكوياما
كما ذكرت في العمودين السابقين يطرح فوكوياما طرحا فريدا في محاولة فهم لماذا تفشل دول وتنجح أخرى؟ يسند النجاح إلى حيوية وفعالية الجهاز الحكومي ويحاول تلمس أسباب نشوء هذه الفعالية وعلاقتها بالتطور السياسي. أزمة المنطقة أتت بسبب تآكل الشرعية، التي أتت بدورها بسبب ضعف الأداء الحكومي وتراكم العيوب. لم يقدم فوكوياما طرحا يأخذ في الحسبان الدول النفطية (تواصلت معه لهذا السؤال وذكر أن الدول الريعية في الخليج تعاني ولكنه لم يقدم طرحا خاصا)، فهذه تشكلت على قاعدة اقتصادية استطاعت المحافظة على نماذج لم تعد تناسب استحقاقات الزمن الحديث. فهذه الدول استطاعت تسخير الثروة النفطية لإحداث نقلة نوعية في الحياة المادية وأحيانا معرفية وثقافية وتنظيمية بما في ذلك طبقة وسطى مقبولة ودرجة من التخصص العلمي، ولكنها في الأخير لم تنجح في ميدان المنافسة العالمية صناعيا أو علميا أو مؤسساتيا - فلم يصل الجهاز البيروقراطي إلى درجة مقبولة من الانضباط والرتابة والاعتماد على الجدارة والاستقلال المهني. النتيجة أن قوة القانون ما زالت سائلة ، ونظام القضاء في المراحل الأولى من التعديل والنمو الاقتصادي الحقيقي ما زال ضعيفا ودرجة التعليم والتخصص المهني ناقصة. لا شك أن بعضا منها مثل الجزائر وليبيا والعراق وفنزويلا في حالة فشل مخجل، ولكن الآفة واضحة حتى في المملكة والكويت، وليس هناك مهرب من مواجهة الواقع. فرصة المملكة لا تزال عالية للنجاح.
حالة الدول النفطية عصية على التحليل وفريدة من حيث التسلسل في التطور، فهي دول وصلت درجة الاستهلاك في الدول المتقدمة ولديها طبقة وسطى مقبولة ولديها جميع الهياكل الإدارية والرقابية أسوة بالدول المتقدمة ولديها أعداد كبيرة من حملة الدكتوراه من جامعات الدول المتقدمة (الشكوك في كفاءة الكثير منهم أحد أعراض تعقيد إشكالية التحديث، إننا في حاجة إلى قيادة تكنوقراطية كفؤة). يرادف ذلك درجة واضحة من المحسوبية وضعف في الإنتاجية وتعاظم دور الحكومة في الاقتصاد على حساب دور القطاع الخاص المدلل والمتشكي غالبا. ما زال المجتمع بين أبعاد طابع الأبوية الريعية من ناحية ومحاولات التحديث الجادة أحيانا. تجد النخبة أن هذه منطقة مريحة ولكنها لا تخدم بناء الدولة في المدى البعيد. في ظل هذه البيئة يصعب أن يكون الجهاز البيروقراطي على نفس الدرجة من الفعالية بما يخدم المرحلة التالية من رغبة الحكومة والناس في التحديث، فمثلا بالرغم من تكاثر الأجهزة الرقابية وارتفاع تكلفتها إلا أن الرقابة ما زلت محل نقد مبرر أحيانا بسبب ضعف استقلالياتها من ناحية وضعف كوادرها من ناحية أخرى (فمثلا لا يوجد اقتصاديون سعوديون في أرقى الجامعات).
في نظري إصلاح الجهاز البيروقراطي ضروري آليا مثل توفر امتحان شامل لمن يصل مرحلة معينة في الجهاز البيروقراطي، ولكنه غير كاف للوصول إلى المرحلة التالية في سلم التقدم. في الأخير نحن نتعامل مع تصرفات البشر، وهذه لا تخضع لحركة الجهاز البيروقراطي وحده، مهما كان شاملا وعميقا، ولذلك علينا البحث في أماكن أخرى. الطبيعة الريعية تشكل تصرفات الناس، وبالتالي يصعب تخيل معادلة تحديث عميقة دون إعادة النظر في منظومة الحوافز الكفيلة بإعادة ترتيب البيت الداخلي جوهريا. الصعوبة العملية أن مطلبا من هذا النوع لا يسمح بالتغيير التدرجي، ولذلك فإن الممانعة متوقعة في مجتمعات لا تريد المجازفة بأي مخاطرة والابتعاد عن المعهود. تصرفات وحوافز الناس لا تبتعد عن قطاع الأراضي (بغرض زيادة سعة الدول مالياً، ولكن أيضا بالربط بين التكلفة والإنتاج بلديا) والدعم والعلاقة بين الإنتاجية (العمل) والتعليم.