الثمن الذي يدفع لحما ودما
أحب المؤرخ الإنجليزي العتيد "توينبي". وقرأت له كثيرا، وما زلت أعود إليه كمرجع مهم في بناء رأي أنثروبولوجي في أي مسار حضري. فهو لا يسجل التاريخ، ويستعرض الحضارات، بل يركز على نقاط اعتبرها محولات المسار التاريخي، أو ما يبدو لنا كذلك، فربما التاريخ كله من تلك المحولات والانعطافات والمفاجآت.. ثم توابعها وعواقبها.
يقول توينبي إن الأمم بحاجة إلى درس واقعي مؤلم تدفع ثمنه باهظا حتى تتوب عن الحرب، وتبني مجتمع السلام والنماء. أذكر أنه أعطى مثلا عن ألمانيا واليابان. ألمانيا دخلت الحرب الأولى ولم تخرج منها بهزيمة صريحة. بقي لها بنياتها التحتية والفوقية ومدنها ومصانعها وجامعاتها لم تمس. فلم تأخذ درسا كافيا من آلام وخسائر وفظائع الحروب، فبنى الرايخ الثالث بزعامة سيد المتحمسين للحروب هتلر مجتمعا كاملا بروح الحرب، وأنتج شبيبة ألمانية بعشرات الملايين كآلات حرب. وقام هتلر بإشعال الحرب الكونية الثانية، وخرجت ألمانيا بهزيمة صريحة كبرى، ولو قرأت قصص ومقالات أدباء ومفكري ألمانيا بعد الحرب لشبت هولا. ما زلت أذكر وصفا لكاتبة ألمانية، قصة من إيحاءات الحروب وذكرت هذا المشهد: "لم يبق في خرابات برلين إلا النساء والفئران. تخرج فتيات شبه عاريات في برد يأكل العظم، ينحتن الأرض بحثا عن خشاش طعام، ويقدمن في عمرهن الباكر أغلى ما يملكن مقابل نصف لوحة شوكولاته، أو ربع شطيرة، لجنود الحلفاء.
الأقوى تأثيرا أن الكنيسة غضت الطرف، أو حتى أوحت بطرق التقطتها النساء تشجع بحثهن عن الرجال لقصد الإنجاب.. لأن ملايين الشباب الألمان ماتوا في الحرب. النتيجة أن ألمانيا لم تعد مجتمعا يفكر بالحرب بعد حجم الثمن المدفوع فبنت اقتصادا وتقدما من أقوى الاقتصادات في العالم.
وكذلك اليابانيون، الذين بزغوا كقوة عسكرية حربية من فجر القرن العشرين، وفاجأوا الدنيا بهزيمة مذلة للأسطول القيصري الروسي الفخم. ثم انتشارهم احتلالا في منشوريا والصين في غفلة عن جيوش الغرب. بعد القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا من الأمريكان على نجازاكي وهيروشيما كفتاها فجيعة كأول فجيعة من نوعها في تاريخ الفواجع. خلعت بلاد الشمس كل أحلام العسكر والحرب وانصرفت للسلام وبنت أعجوبة اقتصادية صناعية دوخت العالم.
منطقتنا الآن تعيش ويلات وفظاعات الحروب، وربما أفظع من صور حروب الجيوش الكبرى في سورية والعراق وفلسطين..
هل هذا يعني أننا دفعنا الثمن؟ أو ما زال أن هناك باق من الثمن لم نستوفه بعد؟
لا أدري. الذي أنا بإذن الله متأكد منه، أنه بعد ذلك مرحلة سلام طويلة، إن وعينا الدرس، وانصرفنا للداخل للبناء والتنمية.. ونسينا الخارج تماما إلا في الأطر الدبلوماسية التقليدية.. لا غير!