علّموا أولادكم الحوار

تابعت وسم (#الحوار_طبعنا) الذي تم إطلاقه بعد الحادث الإرهابي في الدالوة بالأحساء، الذي أراد مطلقه، كما يبدو لي، أن يقول إن المجتمع السعودي بما أبداه من تماسك وحصانة ضد مخطط تفتيته بهذا العمل الإرهابي يعود لاعتماده الحوار كطبع من طباعه وأسلوب من أساليب حياته، كما هو طموح خادم الحرمين الشريفين، عندما أسس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني قبل عشر سنوات.
أيضا يبدو لي أن الوسم يدعو الجميع ليكون الحوار طبعا لهم جميعاً في كل الأحوال، على مستوى الأسرة والمدرسة والعمل والمجتمع عموما بكل فئاته للتفاهم والتفهم والاحترام المتبادل والتعايش كبديل للصراع، الذي يفتت الأسر ويضعف كفاءة التعليم والمؤسسات والمجتمع والأوطان، كما يبدو لي أيضاً أنه يريد في الوقت نفسه أن يؤكد أهمية الحوار وضرورة تعلم مبادئه وقيمه ومفاهيمه ومهاراته ليحقق فوائده على أكمل وجه.
عند متابعتي للوسم وجدت تغريدات تبين أن القليل يعي ماهية الحوار وأهميته باعتباره مهارة حياة للأفراد يحسن جودة حياة من يتقنه لفوائده الكثيرة والمتعددة، باعتباره علاجا لكثير من الأمراض النفسية والاجتماعية الخفية، التي يعانيها كثير منا دون أن يعلم وتسبب له مشكلات كثيرة مع الآخرين (الوالدين، الأخوة، الزملاء، الأصدقاء، الزوج أو الزوجة، الرؤساء والمرؤوسين، الجيران.. إلخ)، ويظن أنهم هم سببها، رغم أن سلوكياتهم ردود أفعال لسلوكياته وقيمه ومفاهيمه السلبية التي يمكن أن يعالجها الحوار، إذا فهم مبادئه وقيمه ومفاهيمه وآلياته.
الأغلبية، كما لاحظت، لا تدرك أن الحوار مهارة فردية، قبل أن يكون ثقافة مجتمع أو ثقافة مؤسسات أو هيئات أو فئات اجتماعية أو أحزاب سياسية، نعم لا يدركون أن الحوار مهارة حياة ذات أثر إيجابي على متقنها، وأثر سلبي على من يعيش أميتها، ويظنون أن الحوار مرتبط بمركز الحوار فقط، وأن الحوار لا يمارس من قبلهم بشكل يومي بين كل من يحيط بهم، وإنما يمارسه مركز الحوار الوطني فقط، وأن مركز الحوار وحواراته غير ذي جدوى، وأنه نوع من أنواع التجميل لواقعنا ليس إلا.
الأغلبية مع الأسف يغلب عليها طابع التفكير السلبي السوداوي، حيث اليأس من جدوى الحوار وأجزم أن سبب ذلك يعود لعدم استيعابهم، لكونه مهارة فردية ترفع من جودة حياة المتقن لها من جهة، ولعدم إدراكهم فوائد الحوار، وكيفية جعله مفيداً للفرد والمجتمع والوطن بالمحصلة.
روي في الأثر أن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل" كما روي أيضاً أن الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال "علموا أولادكم غير ما عُلمتم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" وإذا تعمقنا في مقولة ابن الخطاب لعلمنا أنه يحثنا على أهم ثلاث مهارات يجب أن يتعلمها الشاب في زمانه لأهميتها في جودة حياته وقدرته على مواجهة التحديات وأهمها المشاركة في الفتوحات الإسلامية آنذاك، وإذا تعمقنا في مقولة ابن أبي طالب لعلمنا أنه يدعو الوالدين للمرونة وعدم التشدد والنظر للمستقبل لمعرفة أولويات تعليم الأولاد من مهارات.
أعتقد أن أولويات المهارات التي يجب أن يتعلمها الأولاد في الحياة المدنية تغيرت وأهمها القدرة على التواصل الإيجابي مع الآخرين، ومن ذلك مهارة الحوار الذي يحرر النفس من الصراعات التي تتسم بها الحياة المدنية في البيت والعمل والشارع ومراكز الخدمات.. إلخ، ويجعل الشاب يقبل النقد ويحترم الرأي الآخر، وإن كان غير مقتنع به، كما يخفف من المشاعر العدائية، وما يترتب عليها من مواقف وسلوكيات سلبية تأتي بالمشكلات لصاحبها من حيث لا يعلم.
تشهد المدن بسبب الضغوط التي تولدها وتشابك المصالح وتضاربها خلافات بين أفراد الأسرة تؤدي إلى حالات طلاق مرتفعة وحالات عنف أسري، كما تولد خلافات كبيرة بين الرؤساء ومرؤوسيهم في العمل، ما يؤدي إلى ضعف الإنتاجية وارتفاع معدلات تدوير الموظفين، كما تشهد خلافات كبيرة بين كل فئات المجتمع: رجال أعمال ومستفيدين، موظفي دولة ومراجعين، جهات رقابية وجهات تنفيذية، معلمين وطلاب، مدارس فكرية، طوائف دينية، أبناء قبائل ومناطق مختلفة.. إلخ، وكل ذلك يؤدي إلى الصراع الذي قد يتفاقم ويتحول إلى أزمات ما لم يعالجه الحوار، الذي يجب أن يتقنه كل مواطن كمهارة تواصل ويتحلى به المجتمع كثقافة لإيصال الأفكار وإيجاد الفهم والتفاهم وتمارسه بإتقان المؤسسات والفئات الاجتماعية والاقتصادية كوسيلة فاعلة للتصدي للقضايا والمشكلات والنزاعات.
تقول إحداهن إنها كانت تسمع والدها ووالدتها وزميلاتها في العمل وصديقاتها في أي قضية يتم التحاور حولها، لكي ترد، وليس لكي تفهم وتتفهم وتستفهم، إذا لم تفهم فهي كما تقول جاهزة للرد بالفكرة التي في رأسها، دون أن تهتم بما يقول الطرف الآخر، حتى إنها تقاطعه في كثير من الأحيان لتقول فكرتها دون أن تسمح له باستكمال فكرته، وتضيف أنها دخلت دورة لفنون الحوار في إحدى الدول الغربية وأدركت أن معظم مشكلاتها مع كل هذه الأطراف كانت بسببها، لأنها لا تتقن الإصغاء، كما لا تتقن احترام الرأي الآخر، ولا ترى إلا من زاويتها، وإن كانت معظم الزوايا الأخرى للموضوع معتمة بالنسبة لها، وتضيف ما أن تعلمت مبادئ ومفاهيم وقيم الحوار ومارسته حتى أصبح طبعاً لها، حتى أصبحت جودة حياتها أفضل بكثير من قبل وتصالحت مع نفسها ومع الغير.
أخيرا علموا أولادكم الحوار، فهو إضافة إلى فوائده للمجتمع يرفع من حصانته ضد المخاطر، لأنه ينمي العلاقة بين المتحاورين كافة، فهو يعلّمهم الصبر، ويضبط نفوسهم، ويعالج اندفاعيتهم، وينقي قلوبهم من الأنانية الفردية، ويربيهم على الجرأة، ويغرس الثقة بنفوسهم، ليعبروا عن مشاعرهم، وينمي قدراتهم ويحقق ذواتهم، ويمكنهم من فهم وجهة نظر الآخرين وتقديرها والتعايش معهم بسلام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي