التشدد الديني ما بين علاج الجذور والأعراض
على الرغم من أن حادثة قرية "الدالوة" في الأحساء حالة منفردة ينكرها المجتمع السعودي، ولكنها تبقى ناقوس خطر ينذر بضرورة محاربة التشدد الديني – أيا كان مصدره - وبث روح التعايش بين فئات المجتمع على أرض تراب الوطن الواحد. ومن المؤكد أن هذا التشدد لم يكن موجودا في المجتمع قبل عقود، فقد درسنا في الجامعة مع زملائنا من مناطق مختلفة دون اهتمام باتجاهاتهم المذهبية ودون تأثير لها في تعاملنا مع بعضنا، ولكن التشدد الديني ازداد خلال العقود الثلاثة الأخيرة بدرجة ملحوظة من الأطراف المذهبية كافة. ولا شك أن الأحداث التي مرت بها المنطقة ليست بريئة من دم يعقوب، خاصة الثورة الإيرانية وما واكبها من تصريحات بتصدير الثورة ومن ثم تزايد أنشطتها السياسية تحت الغطاء الديني المذهبي. ولكن هذا ليس السبب الوحيد!
لا شك أن المملكة بذلت جهودا كبيرة في محاربة الإرهاب وأخرى في مجال حوار الثقافات والأديان، بل جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين لتعزيز حوار الأديان والثقافات مبكرا، وتجسدت جهوده – يحفظه الله - في تأسيس مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات. وتأتي هذه الجهود مع ضعف واضح في جهود المنظمات الإسلامية الدولية التي تكاد تختفي من المشهد الإقليمي والدولي.
هناك مسألتان مهمتان في هذا المجال. الأولى ضرورة تعزيز الحوار بين المذاهب الدينية الإسلامية، فعلى الرغم من عمق الخلاف المذهبي كونه يستند إلى خلفية تاريخية معروفة، فإنها ستبقى نقطة ضعف في العالم الإسلامي تستغل لتحقيق أهداف أطراف خارجية وستبقى سوسة تنهش جسد العالم الإسلامي، ولا يتطلب إثبات هذا الأمر كثير عناء، فليس ببعيد عن الأذهان الدور الذي يقوم به "حزب الله" وكذلك "الحوثيون" في خدمة أهداف جهات خارجية تحت غطاء مقاومة وإصلاح وطني! وأعتقد أن الجهود في مجال الحوار المذهبي لا تزال محدودة وهي أقرب إلى الصراعات الفكرية "الغوغائية" منها إلى الحوار الفكري الهادئ الحكيم، ففي معظم الحوارات السابقة يحاول كل طرف أن ينتصر على الآخر وكأنهم في حلبة مصارعة. لذلك تبقى الجهود الموضوعية المخلصة خجولة، إن لم تكن مفقودة.
والمسألة الثانية أن معالجة التطرف والتشدد الديني تكاد تركز – في معظمها - على معالجة الأعراض بالمراهم والمسكنات دون معالجة جذور المشكلة التي يتطلب حلها أو تخفيف حدتها فهم المسببات ورصد تاريخ المرض بدقة، ومن ثم إجراء عمليات جراحية قد تكون مؤلمة. إن فهم الجذور لا يأتي إلا بدراسات عميقة وتشريح دقيق للأعراض بموضوعية. لذلك أدعو مركز الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات إلى التركيز على قضايا التشدد الديني بين المذاهب الإسلامية وتعزيز الحوار البناء فيما بينها، بدلا من إهمال هذا المجال لصالح الحوار بين أتباع الأديان. إن الحوار الذي يؤدي إلى التعايش هو السبيل الوحيد للاستقرار والتنمية والنماء في الدول الإسلامية، فماذا ننتظر؟ هل نريد مزيدا من الضرر ومزيدا من الضحايا؟
ختاما على الرغم من الاعتراف بصعوبة حل القضايا والخلافات المذهبية في المنطقة، فإن الأولوية ينبغي أن تتجه نحو دراسات جادة لفهم التحولات والتغير الاجتماعي الذي يشهده المجتمع السعودي خصوصا، واستشراف مستقبل التغير الاجتماعي في المنطقة عموما، وذلك من خلال دعم المراكز العلمية المتخصصة وتوفير الإمكانات اللازمة لها.