التعوّد على الإنفاق المرتفع
تقوم مؤسسة النقد العربي السعودي كباقي المصارف المركزية بأداء ثلاث مهام رئيسة، متمثلة في إدارة السياسة النقدية، وإصدار العملة، وإنجاز الأعمال المصرفية للدولة وإدارة حساباتها. وتودع الدولة إيراداتها لدى المؤسسة كما تصرف نفقاتها من خلالها. وتنشر مؤسسة النقد العربي السعودي بيانات شهرية عن ودائع واحتياطيات الحكومة المركزية ممثلة في وزارة المالية. وتنقسم ودائع الدولة (حسب هذه البيانات) أو حساباتها إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي حساب الدولة الجاري، وحساب الاحتياطي العام للدولة، وحسابات المشاريع. ويتم صرف معظم نفقات الدولة كالرواتب من الحساب الجاري كما يتم إيداع إيرادات الدولة النفطية وغير النفطية فيه. ويلاحظ أن هذا الحساب كان منخفضا في فترة التسعينيات عندما تراجع إنفاق الدولة وتراجعت إيراداتها. وقد انخفضت الإيداعات في هذا الحساب عام 1999م إلى مستويات متدنية بسبب تراجع الإيرادات، وذلك عندما انهارت أسعار النفط تلك السنة. وعاد الحساب الجاري للارتفاع إلى مستوياته السابقة في الأعوام التالية، ثم بدأ في الارتفاع فوق المستويات السابقة في نهاية عام 2004م. وتواصلت ارتفاعاته مع ارتفاع الإيرادات النفطية الحاد في السنوات الأربع التالية. ولا تعكس البيانات التي تصدرها المؤسسة عن هذا الحساب حركات الصرف والإيداع في الحساب الجاري، وقد تظهر التحويلات من هذا الحساب إلى احتياطيات الدولة أو حسابات المشاريع من بيانات تلك الحسابات.
وقد بدأت الدولة في تحويل جزء من الفوائض المالية إلى حسابات خاصة بمشاريع معينة وذلك منذ بداية عام 2005م، ما قاد إلى ارتفاع كبير في حسابات المشاريع حتى وصلت إلى أكثر من نصف تريليون ريال في الوقت الحالي. كما قادت الفوائض الكبيرة إلى زيادة مستويات الاحتياطيات العامة للدولة وذلك بدءًا من منتصف عام 2007، والهدف من هذه الاحتياطيات هو التحوط ضد تقلبات إيرادات الدولة. وزاد حساب الاحتياطيات العامة للدولة بقوة في نهاية 2008م ولكنه تراجع في العام التالي بسبب العجز المالي في تلك السنة. وعاودت الاحتياطيات بعد ذلك الزيادة حتى بلغت 851.4 مليار ريال في نهاية 2013م. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن احتياطيات الدولة لدى المؤسسة لا تقتصر على هذا المبلغ بل إن كل المبالغ الموجودة باسم الدولة في مؤسسة النقد العربي السعودي تعتبر احتياطيات للدولة بما في ذلك الموجودات في الحساب الجاري وفي الحسابات المخصصة للمشاريع. ويعكس التغير في إجمالي هذه المبالغ بين أي فترتين الميزان المالي، فإذا كانت هناك زيادة في إجمالي هذه الحسابات فهي مساوية للفائض خلال الفترة، وإذا كان هناك نقص فإن هناك عجزا في إنفاق الدولة.
وتشير بيانات مؤسسة النقد إلى أن إجمالي إيداعات واحتياطات الدولة في نهاية عام 2013م قد بلغت 1508.3 مليار ريال. وقد تراجع إجمالي هذه الإيداعات والاحتياطيات في بداية السنة، وسجل شهر أيار (مايو) من هذا العام أكبر تراجع في إجمالي إيداعات الدولة حيث انخفضت إلى 1468.8 مليار ريال. وارتفعت الإيداعات والاحتياطيات في الأشهر التالية بعض الشيء ولكنها ظلت تحت مستويات نهاية 2013م، ووصلت إلى 1496.7 مليار ريال في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2014م. وهذا يشير إلى وجود عجز مالي خلال الأشهر التسعة من هذا العام وصل إلى 11.7 مليار ريال. من جهة أخرى، فقد تم سحب 50 مليار ريال من حساب الاحتياطي العام للدولة في شهر أيلول (سبتمبر) ووضعت في الحساب الجاري للدولة، ما يوحي بتوقع زيادة العجز في الإنفاق المالي للدولة خلال الأشهر المتبقية من السنة. وهذا ليس راجعاً فقط إلى تراجع أسعار النفط وإيراداته، ولكن زيادة النفقات أسهمت بشكل قوي في إحداثه.
ويبدو أن السياسة المالية بدأت تتعود على مستويات أسعار النفط المرتفعة حتى تم تسجيل عجز مالي قبل تراجع أسعار النفط الأخير. وإذا ما تم الاستمرار على هذا المنوال، فإن الاحتياطيات ستتآكل خلال الأمد المتوسط. ولا أعتقد أن هذه السياسات موائمة للسياسة المالية المتحوطة، التي تسعى إلى المحافظة على استمرارية سلامة الموقف المالي والحد من نزعات الإفراط في الإنفاق عند ارتفاع الإيرادات. ولهذا لا بد من السيطرة على الإنفاق والحد من معدلات نموه المرتفعة، كما أن من الأجدر استخدام الاحتياطيات المتراكمة عبر السنوات للحصول على إيرادات مستدامة تساعد على تنويع الإيرادات وتخفيف الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية المتقلبة.