غياب الفلسفة الفكرية المؤسسية وضعف الكفاءة
قلت له ما سر نجاحك في حياتك العملية وترقيك بشكل متسارع في المناصب وارتفاع دخلك والعروض الكثيرة التي تتلقاها من أكثر من شركة؟ قال لي إن ذلك يعود لفلسفته الفكرية تجاه "العمل" أو "الوظيفة" فهو "يتقرب إلى الله بالعمل المتقن" على اعتبار أن العمل عبادة و"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" و"من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له".
وأضاف أن هذه الفلسفة جعلته ينضبط في الحضور والانصراف ويسعى لزيادة إنتاجيته لأعلى درجة ممكنة من خلال رفع مستواه المعرفي بالقراءة ومهاراته بالتدريب على رأس العمل وخارجه وتبادل الخبرات مع الآخرين والسعي للحثيث لتعلم وممارسة كل ما هو جديد في مجال عمله والتواصل الإيجابي مع الرؤساء والمرؤوسين والزملاء والعملاء مما كان له أكبر الأثر في تميزه وثراء سيرته الذاتية ورضا المسؤولين عنه وترقيته بشكل متسارع وحصوله على عروض مغرية متعددة من أكثر من شركة كبرى مرموقة.
آخر دائما ما يتنقل من شركة إلى أخرى مع شهور بطالة طويلة تتخلل هذا الانتقال فهو ما أن يعمل بشركة لبضعة شهور بعد أن يقدم نفسه كموظف واع ملتزم منضبط مبدع حتى ينكشف أمره فيطرد بعد استنفاد محاولات إصلاحه كافة؛ فهو رغم تأهيله الجامعي وتمتعه بمعارف ومهارات فنية ومهارات تواصل مميزة إلا أنه يحمل فلسفة سلبية تجاه العمل وهي "الموظف الناجح من يحصل على وظيفة تحقق له أعلى دخل بأقل جهد ممكن" لذلك يتمحور سلوكه حول "تضبيط" المسؤولين والمراقبين ليحقق المعادلة إلا أن الأمر لا يسعفه في العمل الخاص ولذلك فهو يسعى اليوم بكل جد واجتهاد ليعمل في جهاز حكومي يحقق له تلك الفلسفة.
الفلسفة الفكرية للفرد أو المؤسسة هي منطلقات المواقف والسلوك للأفراد وهي منطلقات الرؤية والبرامج والمشاريع والمنتجات والخدمات وآليات التواصل مع العملاء والمراجعين بالنسبة للشركات، والمنطلقات تتكون بعد عملية فكرية تحليلية إبداعية يقوم بها العقل من خلال ما تتوافر له معلومات تنقلها الحواس للدماغ عن الواقع الذي يربطها بمعلومات سابقة ترسخت في العقل الفردي أو المؤسسي عبر الزمن.
الفلسفة الفكرية للمؤسسة أيا كان نوعها حكومية أو خاصة أو مؤسسة مجتمع تركز الجهود نحو مهمة ورسالة واضحة لكون الفلسفة توضح هويتها وموقفها من الآخرين سواء كانوا شركاء أم مستفيدين وبالتالي تبتكر وتختار البرامج والمشاريع والآليات التي تصب في مصلحة الحكومة أو المساهمين أو المحسنين والشركاء والمستفيدين في إطار الفكرة الرئيسة الناظمة والأفكار الفرعية المنبثقة عنها، وبالتالي فهي مؤسسة واضحة الصورة في أذهان شرائحها المستهدفة الداخلية والخارجية كما أنها مؤسسة عالية الفاعلية والكفاءة ولذلك هي محل تقدير واهتمام وثناء وتشجيع.
وفي حال عدم وجود فلسفة فكرية للمؤسسة فإنها تكون بلا هوية وبالتالي بكل تأكيد بلا صورة واضحة في أذهان الجميع حتى المؤسسين والموظفين فضلا عن الشركاء والمستفيدين وأيضا ستكون برامجها ومشاريعها وآلياتها مبعثرة ومشتتة، بل ومتناقضة في أحيان كثيرة وبالتالي فهي مؤسسات ضعيفة الكفاءة ومنعدمة الفاعلية؛ لأنها مشتتة الاتجاهات ولذلك عادة ما تكون محل نقد لاذع ومحل شك وعدم ثقة من الجميع.
أذكر أن أمانة مدينة الرياض اعتمدت قبل نحو ست سنوات تقريبا فلسفة مفادها "المستفيد والمراجع من خدمات الأمانة عميل" بمعنى أن موقف الأمانة وتصرفاتها تجاه المستفيد والمراجع للأمانة هو موقف الشركات الربحية من عملائها الذين هم مصدر دخلها وهي فلسفة راقية ومحط احترام وتقدير بكل تأكيد، وبعد أن اعتمدت الأمانة هذه الفلسفة أعادت هيكلة ثقافتها التنظيمية وهياكلها الإدارية وإجراءاتها وبرامجها ومشاريعها وآلياتها التنفيذية ليشعر المواطن بذلك وحققت نجاحات كبيرة في هذا المجال حتى أنها سهلت عملية التواصل مع المواطنين بشكل غير مسبوق، ورغم أنها لم تصل للكفاءة المثلى في هذا التوجه لأسباب عديدة إلا أن فلسفتها الفكرية جعلتها في المسار الصحيح وحققت الشيء الكثير ونتمنى أن تواصل بهذا التوجه للمزيد من الإنتاجية والكفاءة.
أذكر أيضا اتحاد السباحة أعلن فلسفة أتمنى أن تعمل بها الاتحادات الرياضية كافة وهي كما فهمتها من تصريحات رئيس الاتحاد الأمير عبدالعزيز بن فهد المتكررة "نصل لمنصات التتويج الدولية من خلال رعاية الشباب صحيا وتربويا ونفسيا وأمنيا بتمكينهم من استثمار أوقاتهم الحرة بتعلم السباحة والترقي في مهاراتها من أجل الصحة والترفيه أو من التدرج بمسار الأداء الرياضي والوصول لمنصات التتويج في مجال الألعاب المائية الفردية والجماعية" ولذلك تتمحور البرامج التنفيذية كافة للاتحاد حول هذه الفلسفة، حيث يعمل على نشر منشآت السباحة في مناطق المملكة وأحيائها كافة، وتحفيز عناصر منظومة الألعاب المائية لتوفير خدمات تعليم السباحة والترقي في مهاراتها من مدارس وأندية رياضية ومراكز رياضية أهلية وجامعات ومكاتب الرئاسة العامة في المناطق كافة، إضافة للقطاعات العسكرية والهيئات الرسمية وشبه الرسمية، ويعمل على تعزيز السلامة في منشآت السباحة وتوفير معلمي ومدربي السباحين والمنقذين بمعايير دولية.
لن أخوض في المزيد من الأمثلة وهي أمثلة نادرة ولكم أن تدخلوا موقع معظم الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني لتبحثوا عن فلسفتها الفكرية في تقديم خدماتها ومنتجاتها للنهوض بالأغراض التي أنشئت من أجلها وكيفية تمحور برامجها ومشاريعها وآلياتها التنفيذية حول هذه الفلسفة لتدركوا نسب المؤسسات العالية التي تعمل دون فلسفة فكرية وأثر ذلك على ضعف كفاءتها وتشتت صورها الذهنية لدى الشرائح المستهدفة.
ختاما أتطلع أن تحدد المنشآت الحكومية والخاصة والمدنية في بلادنا فلسفتها الفكرية وتعلنها وتوضح كيف تتمحور تنفيذيا حولها وكيف توظف إمكاناتها حسب الأولويات لتحققها للنهوض بمهامها وأغراضها على أكمل وجه وأثر ذلك في فاعليتها وكفاءتها.