ديوان المراقبة العامة .. يدخل مرحلة النقد الذاتي
على الرغم من أن وظيفة الرقابة الإدارية ليست وظيفة من وظائف الواجهة، إلا أن العمل الإداري الناجح لا يقوم إلا من خلال هذه الوظيفة المهمة جدا والغائبة جدا عن الإدارة في المملكة العربية السعودية.
وفي الشهر الماضي فجرت إحدى الصحف المحلية خبرا يقول إن رئيس ديوان المراقبة العامة أرسل خطابا توبيخيا لثمانية من كبار موظفيه يتضمن انتقادات قاسية لعمليات المراجعة والتدقيق التي قاموا بها لدى بعض الوزارات واصفا إياها بالسطحية وشبه الصورية، وألمح في الخطاب الصارم الذي أرسله إلى القيادات الثمانية أن عملهم ينم عن إهمال وعدم بذل العناية المهنية الواجبة أثناء تنفيذ عمليات المراجعة والتدقيق.
وعلى الرغم من أنني غير معجب شخصيا بأداء رئيس الديوان إلا أنني سررت جدا لهذا النقد الذاتي الذي واجه به قيادات الديوان، وأحسب أن الطعن في كفاءة القيادات ينسحب ــ بالضرورة ــ على البقية الباقية من الموظفين والتلاميذ!
ولكن أرى أن هذا النقد الذاتي للديوان غير كاف، وكان يجب أن يضع الديوان استراتيجية جديدة للعمل الرقابي في المملكة، حيث يتحول النقد الذاتي من نقد للأداء إلى إعادة هندسة وظيفة الرقابة الإدارية في المملكة العربية السعودية.
هَبْ أننا أجرينا مراجعة سـريعة عن إنجازات المؤسسات المسـؤولة عن الرقابة في الحكومة نجد أن مجلس الشـورى فقط هو الذي حقق ــ في الآونة الأخيرة ــ إنجازات يمكن أن تُحسبْ له.
من المؤسف حقا أن المؤسسات الحكومية لم تحقق مركزا مشــرفا على قائمة الدول التي تطبق الشــفافية، ويسـجل معدل الفسـاد الإداري والمالي درجات تحرج كل السـعوديين، وكذلك فإننا على قائمة التنافسية الدولية لم نكن في المقدمة كما كنا نعتقد ونتمنى.
نقول مرة أخرى إن من أهم أسباب انخفاض مستوى تنفيذ المشاريع الحكومية غياب الرقابة الإدارية والمالية، ونؤكد أن مشاريع الدولة سـوف تتراجع طالما أن الرقابة غائبة، أو ــ على الأقل ــ لم تقم بواجبها، وإذا كانت الحياة فرصا فإننا يجب أن نغتنم فرصة زيادة أسعار البترول ونقوم بتنفيذ أكبر قدر من مشـاريع التنمية الشـاملة، لأننا لا نعلم ما يخبئه القدر لأســعار البترول وما يخبئه القدر للأسواق العالمية التي تتحرك في هذه الأيام من أزمة إلى أزمة أكثر حدة، أزمة في الغذاء، أزمة في المياه، أزمة غلاء، أزمة طاقة.
دعونا نتساءل: ما الأسـباب التي تجعلنا لا نكون ضمن أحسن الدول في تطبيق الشفافية والنزاهة، وأزعم أنه لا يوجد مبرر واحد لا يجعلنا نطبق كل مبادئ الحوكمة، فالدولة تصرف على التعليم والتدريب أموالا طائلة بهدف تخريج الكفاءات القادرة على تنفيذ الأعمال والبرامج، كما أن الدولة وكل السعوديين يدينون بالدين الإسلامي الحنيف الذي يفرض على كل مسلم ومسلمة أن يتقي الله فيما يعمل ويقدم لحكومته وأمتـه.
إذن، ما الأسباب التي تجعل المملكة لا تحقق مركزا متقدما في قائمة الشفافية والنزاهة والتنافسية الدولية، ثم ما الأسباب التي تجعل معدل تنفيذ المشاريع الحكومية يتراجع ويجعل إمارة مثل إمارة مكة المكرمة تنشئ إدارة لعلاج أسباب انخفاض معدلات تنفيذ المشاريع الحكومية، بل يجعل الحكومة تقلق من ظاهرة انخفاض معدلات تنفيذ المشاريع الحكومية، فتسارع وتصدر نظاما لقياس الأداء لمعرفة المؤسسات المنتجة من المؤسسات غير المنتجة.
إن معدلات تنفيذ بناء المدارس الحكومية التي اعتمدت في الميزانيات الحكومية، وكذلك معدلات بناء المستشفيات والمراكز الصحية، ومعدلات بناء الجامعات، ومعدلات بناء الطرق والكباري والسدود.. تعاني انخفاضا ملحوظا، وأخذ (الوقت) الذي أصبح ــ عند كثير من علماء الاقتصاد ــ عنصرا من أهم عناصر الإنتاج يضــيع، وتضيع معه أحسن الفرص المتاحة.
إنني أرجو من أجهزة الرقابة، وبالذات ديوان المراقبة العامة الذي يتنصل من مسؤولياته ويردد بعض الكلمات غير المقبولة جملة وتفصيلاً، ونؤكد لديوان المراقبة العامة أنه لا توجد رقابة من الأول ورقابة من الآخر، فالرقابة هي الرقابة بنص نظام ديوان المراقبة العامة، والاسـم الذي يحمله الديوان جامع مانع، أي إن الديوان هو المراقب العام على كل أجهزة الدولة من البداية حتى النهاية، وإذا فرط الديوان في مسؤولياته فإن الديوان نفسه يجب أن يحاسب على تفريطه في أداء وظائفه الرقابية على نفسه قبل غيره، بل أكثر من هذا فإن واجب ديوان المراقبة العامة أن يعلن على الملأ كل أنواع الفسـاد، بل من واجبه أن يعلن أسماء المفسدين بالأسماء والألقاب، أما أن يتحجج بحجج واهية ويتنصل من أهم وظائفه فإن الديوان يضع نفسه في موضع المساءلة والتحقيق.
ولذلك فإنني أتمنى من كل مؤسسات الرقابة في المملكة أن تتعاون لمحاسبة ومساءلة المسؤولين الحكوميين الذين يطلقون التصريحات الإعلامية الرنانة عند الاحتفال بتدشين المشاريع أو عند الاحتفال بانتهاء تنفيذ المشاريع، وطبعا في الحالتين، فإن كثيرا من المسؤولين يغتنمون فرصة وجود حشد من الإعلاميين في مثل هذه الاحتفالات ويطلقون التصريحات النارية "إياها" التي تنطوي على كثير من المبالغات لتظهرهم لدى الجهات الأعلى والأسمى بأنهم الحادبون على علاج مشاكل المواطنين!
إننا نتمنى من مجلس الشورى الذي يقوم حالياً بمناقشة نظام الحوكمة في القطاع العام أن يواصل أعماله الإيجابية ويلح في طلب المزيد من المسؤولين وبالذات رئيس ديوان المراقبة العامة ووزير المياه والكهرباء للمثول أمام المجلس الموقر لتقديم خططهما الرامية إلى القضاء على مشكلة القصور في الرقابة الإدارية والمالية والمياه والصرف الصحي في مدينة جدة وفى جميع مدن وقرى المملكة.