تحولات أسواق النفط
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تراجعا قويا في أسعار النفط الخام، حيث فقد سعر برميل مزيج برنت أكثر من 20 دولاراً خلال الأشهر الثلاثة الماضية متراجعاً إلى مستويات تقل عن 85 دولاراً للبرميل، وذلك في 15 أكتوبر 2014م. وتحوم أسعار خام برنت المستقبلية للأشهر الثلاثة القادمة حول مستويات 85 دولاراً للبرميل، بينما تبلغ الأسعار المستقبلية لسنة نحو 88 دولاراً للبرميل. وهذا يشير إلى توقع الأسواق (في الوقت الحالي) باستمرار بقاء الأسعار عند مستويات تقل عن 90 دولاراً للعام القادم. وتأتي هذه التوقعات نتيجةً لاعتقاد المتعاملين في الأسواق النفطية باستمرار وجود فوائض في عرض النفط الخام خلال ما تبقى من هذا العام والعام القادم. كما تأتي هذه التوقعات نتيجةً للاعتقاد السائد بأن الطلب العالمي على النفط الخام سينمو بمعدلات تقل عن نمو العرض النفطي العالمي. ويأتي ضعف النمو في الطلب من عدة أسباب لعل أبرزها معاناة مجموعة الاتحاد الأوروبي واليابان من استمرار بقاء معدلات النمو الاقتصادي عند مستويات متدنية، وكذلك تراجع معدلات النمو في عدد من الدول الصاعدة كالبرازيل وروسيا وتركيا. وقد خفض صندوق النقد الدولي أخيرا من توقعات نمو الاقتصاد العالمي بنحو عشري نقطة مئوية. كما خفضت منظمة الطاقة العالمية هذا الأسبوع من توقعات الطلب على النفط الخام مما يضع مزيدا من الضغوط على أسعار النفط الخام.
وأدت ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة التي بدأت منذ أربع أو خمس سنوات إلى زيادة العرض العالمي والضغط على أسعار النفط الخام داخل الولايات المتحدة. ونتج عن الحظر المفروض على تصدير النفط الخام الأمريكي زيادة الفروقات السعرية بين أسعار النفوط في الولايات المتحدة وباقي العالم، وشهدت السنوات الماضية فروقاً كبيرة بين أسعار النفط الخام في الأسواق الأمريكية وباقي أسواق العالم، حيث تقل أسعار النفوط الأمريكية والنفوط المصدرة من دول "أوبك" إلى الولايات المتحدة بعدة دولارات عن باقي أسواق العالم. وقادت ثورة النفط الصخري إلى ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة بنحو 3.2 مليون برميل يومياً خلال السنوات الأربع الماضية، كما زاد إنتاج كندا النفطي خلال الفترة نفسها بنحو 800 ألف برميل يومياً. ونتج عن هذه الارتفاعات زيادة العرض العالمي من النفط وإلغاء تأثير تراجع إنتاج الدول التي تعاني من مصاعب أمنية وفي مقدمتها ليبيا والعراق. وقد أدت الظروف الأمنية في بعض الدول المنتجة إلى تأخر تأثر الأسواق العالمية بالنفط الصخري الأمريكي.
وقد سرَّع من تراجع أسعار النفط أخيرا تراجع اهتمام المضاربين والمسثمرين في العقود النفطية والخروج منها. حيث تقود التوقعات بتراجع الأسعار لفترة طويلة إلى خروج المستثمرين من أسواق السلع المتراجعة أسعارها، مما يضخم من مستويات التراجع، وقد تراجعت الاستثمارات في عقود النفط الخام إلى مستويات متدنية. ويبالغ البعض في تأثير تصرفات المضاربين على أسعار السلع، ولكن يرى الكثير من المختصين أن تصرفات المضاربين تأتي رداً على التغيرات الحادثة في عوامل أساسية مثل توقعات ضعف الطلب وزيادة العرض.
ويساهم ارتفاع معدلات صرف الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسة الأخرى في تراجع أسعار النفط، حيث يرفع تصاعد قيمة الدولار من تكلفة النفط في العملات الأخرى. ويرى كثير من المختصين أن هناك علاقة عكسية بين معدلات صرف الدولار الأمريكي وأسعار النفط. وتدعم التطورات التاريخية هذا الرأي، حيث تزامن ارتفاع الدولار بقوة خلال الفترات السابقة مع تراجع أسعار النفط.
لقد حدث أخيرا تراجع معتبر في أسعار النفط، ولكن المهم بالنسبة لمتخذي القرار هو مستويات التراجع وفترة بقائها. ويسري توقع في بعض الأوساط الغربية بأن هناك ضغوطاً على أسعار النفط لعدة سنوات قادمة وحتى بداية تراجع إنتاج النفط الصخري الأمريكي، بينما يرى آخرون أن تراجع أسعار النفط سيثبط من الاسثتمار في النفط الصخري الأمريكي ويوقف نموه المستمر منذ عدة سنوات، ولكن هذا يتطلب بقاء الأسعار عند مستويات تقل عن 80 دولاراً ولفترة من الزمن. وفي حالة حدوث تراجع الاستثمار في عمليات إنتاج النفط الصخري فإن الأسعار ستعود للارتفاع مع نمو الطلب العالمي. وإذا عادت الأسعار إلى مستوياتها السابقة فإن الاستثمار سيعود مجدداً إلى النفط الصخري وهكذا دواليك. ويبدو أن السنوات القادمة ستشهد تناوراً بين منتجي "أوبك" والمنتجين الأمريكيين أشبه ما يكون بلعبة شد الحبال، تُستخدم فيه الأسعار لتحديد قدرة دول "أوبك" والمنتجين الأمريكيين على تحمل مستويات إنتاج وأسعار معينة يتغلب فيها الأقوى على التحمل والأكثر حنكة ومراوغة.