سوق الاستشارات وتعزيز كفاءة المنشآت الحكومية والخاصة
تساءل أحد المغردين بـ"تويتر": "إن كانت الجهات الحكومية لن تنفذ الخطط الاستراتيجية فلماذا تبذل الوقت والجهد لإعدادها ابتداء؟ وآخر يقول في وسم #شيء_ ودك _يختفي_ من_ بلدك "الخطط الاستراتيجية"، والكثير ممن أعرفهم وألتقي بهم يرون أن التخطيط الاستراتيجي مضيعة وقت ومآله الأدراج، وحسب علمي إن لفظ "التخطيط الاستراتيجي" أصبح يطلق على كل أنواع التخطيط، وبالتالي فنحن أمام ردة عن التخطيط والتوجه للعشوائية والعمل في إطار المهام بالفعل وردة الفعل و"طقها والحقها".
أحد العاملين في حقل الاستشارات الإدارية قال لي إن رفض الخطط الاستراتيجية وتحويلها للأدراج قد يكون حديثا مبالغا فيه، إلا أنه يمكن القول وبكل تأكيد إن هناك انحرافات متفاوتة بين جهة وأخرى، كما يمكن القول إن هناك ضعفا متفاوتا أيضا في كفاءة تطبيق الاستراتيجيات، مبينا أن الاستراتيجيات تشتمل على تحليل عميق لكل محاور عمل أي جهة، وصولا إلى تشخيص دقيق بنسب عالية، ومن ثم تحديد اتجاهات المسارات الرئيسة والعمل، ومن ثم البرامج التنفيذية الاستراتيجية ومشاريعها وآلياتها ومرحلية تنفيذها تتابعا وتزامنا وجداولها الزمنية والموازنات التقديرية.
وأقول إن شراء اللاملموس من دراسات وبحوث واستشارات إدارية ومالية على شكل خطط وموازنات وهياكل تنظيمية وثقافة منظمات أو استشارات فنية لمواجهة مشاكل آنية أو متوقعة أو للتصدي لقضايا معينة أو للانتقال لمستويات جودة أو تنافسية أعلى، أقول شراء اللاملموس ودفع مبالغ كبيرة تكلفة له ما زال يواجه عقبات ثقافية كبيرة خصوصا في الدول النامية لعدة أسباب منها عدم تقدير أهميته كعمل استشاري يوفر مبالغ طائلة يمكن أن تبدد دون جدوى، إضافة إلى أهميته في رفع الجهد وتقليل الوقت اللازم للتنفيذ، ومنها عدم القدرة على توظيف مخرجاته لضعف جدارة المسؤولين أو عدم الرغبة في توظيفها لتعارضها مع مصالح البعض الشخصية.
التهم الجاهزة لعدم جدوى الاستشارات بشكل عام والخطط الاستراتيجية وهي تهم كما يبدو لي، إن بدا بعضها محقا إلا أنها لتبرئة الذمة من ضعف الجدارة أو سوء النية أو كليهما، والتهم التي يطلقها البعض ليست بهدف رفض الاستشارات كاملة، وإنما بهدف اختراقها ليتمكنوا من تطويعها بما يتناسب وقدرتهم على الفهم والاستيعاب من ناحية وبما يتناسب والقدرة على تحقيق المصالح الشخصية من ناحية أخرى، وبالتالي فالمتهمون للاستشارات والخطط الاستراتيجية لا يتركونها كاملة بل يعملون في أطرها وفي مساراتها الرئيسة ويتلاعبون بسرعتها ويحرفونها أحيانا عن المسارات لدرجة مقبولة لتحقيق مصالحهم دون مساءلة. من التهم الجاهزة المتداولة حاليا أن الدراسات التي يقدمها الاستشاريون الأجانب نظرية ولا تناسب ومعطيات بلادنا وبيئتها وظروفها لعدم معرفة الخبراء الأجانب لها ولظنهم أن ما ينجح في بلادهم ذات المعطيات المختلفة تماما ينجح في بلادنا، وبالتالي فإن مصير كل خطط المكاتب الاستشارية واستشاراتها لا فائدة منها، وهذا كلام غير منطقي بتاتا، وإن كان به شيء من الصحة ولكن يمكن التعاطي مع تلك المشكلة ببساطة لو شئنا.
ومن التهم أيضا أن الاستشاريين السعوديين معظمهم أكاديميون غير مهنيين وغير ممارسين، وبالتالي استشاراتهم تأتي من أناس بعيدين عن الواقع، الأمر الذي يجعل استشاراتهم غير فاعلة وغير مجدية بل إنها معيقة في كثير من الأحيان، كذلك بعض الاستشاريين السعوديين الممارسين انتقلوا إلى عالم الاستشارات دون تجارب وخبرات تمكنهم من ذلك ومعظم استشاراتهم تنطلق من خلفيات فكرية وممارسات قديمة أكل عليها الزمن وشرب، ولا تنطلق من منهجيات وعمليات استشارية حديثة تتماشى مع روح العصر ومتطلباته وحركته السريعة.
وأقول كل هذه التهم واردة، وقد تكون صحيحة إلا أنه يمكن معالجتها لو خلصت النوايا وتكتل المعنيون بسوق الاستشارات وتفاهموا مع الجهات الطالبة للاستشارات بكل أنواعها، وكذلك يمكن المزاوجة بين الاستشاريين السعوديين والاستشاريين الأجانب والعولمة، وتبعاتها سهلت ذلك كثيرا.
تعذر بعض الاستشاريين السعوديين بسطوة الشركات العالمية وسيطرتها على سوق الاستشارات السعودية مردود عليه، فالسوق تتسع ويمكن للسعوديين بناء علامات استشارية تجارية معروفة ولنا في سوق المطاعم المحلية مثال، حيث استطاعت العلامات التجارية المحلية منافسة العالمية في المملكة وخارجها ومن جد وجد ومن سار على الطريق وصل.
من الأعذار التي تستحق الدراسة حقيقة ما قاله لي أحد الاستشاريين إن الهياكل غير الرسمية والأهداف الشخصية أو الجماعية المرتبطة بها، التي عادة ما تخالف أهداف الأجهزة الحكومية أو الشركات الخاصة وهياكلها المعلنة تشكل العقبة الكبرى وتعتبر السبب الرئيس لفشل الاستشاريين الأجانب والسعوديين وتحويل استشاراتهم وخططهم إلى الأدراج أو إلى سلة المهملات، مؤكدا أن عدم فهم هذه الأهداف والهياكل غير الرسمية ومحاولة التعامل معها كحقيقة يجب مراعاتها ومعالجتها سبب رئيس لضعف كفاءة الموازنات الهائلة التي ترصدها الدولة لمشاريع التنمية التي تعاني الفشل والتأخر لسنوات طويلة، كما أعلن ذلك أكثر من مرة ديوان المراقبة العامة.
أعتقد أن هناك لجانا في الغرف التجارية تجمع الاستشاريين السعوديين، وأعتقد أنهم على وعي تام بمشاكل سوقهم، إضافة إلى ماهيته وأهميته، خصوصا من جهة رفع فاعلية وكفاءة الأجهزة الحكومية والمنشآت الخاصة والمؤسسات المدنية التي تشكل في مجملها محركات دفع خطط التنمية الشاملة والمستدامة والمتوازنة، وأعتقد أن عليهم طرح خطة معلنة لمعالجة مشاكل سوقهم وعرضها على الجهات الحكومية المختصة للمساهمة في دعم سوقهم وتنميتها لتلعب الدور المنتظر منه.
ختاما أتطلع إلى تعاون كبير بين شركات القطاع الخاص السعودي المعنية بالاستشارات بكل أنواعها ومراكز البحوث والدراسات والاستشارات في الجامعات كافة لدراسة سوق الاستشارات ورفع توصيات فاعلة لمعالجتها في أسرع وقت لتسهم في تعزيز كفاءة المنشآت الحكومية والخاصة لتسريع عجلة التنمية في بلادنا واستثمار ثرواتنا الاستثمار الأمثل.