سرقة المنتجات المعدنية
حادثة مؤلمة وقعت في جدة الأسبوع الماضي، ذهب ضحيتها طفل عمره خمس سنوات وقع في خزان للصرف الصحي دون غطاء، لحقه والده الثلاثيني لإنقاذه وتوفي هو الآخر، وذلك بحسب صحيفة "سبق" الإلكترونية. حدثت هذه المأساة في شارع عام، لا نعلم عن سبب عدم وجود غطاء الخزان، ولكن المؤكد أن مثل هذه الأحداث تنتشر في أماكن كثيرة حول العالم وسببها لصوص المعادن، الذين يتاجرون بشتى أصناف المعادن المستعملة أينما وجدوها.
لا أعلم إن كانت هذه الظاهرة السيئة استعادت بريقها مرة أخرى لدينا أم لا، وهي التجارة التي تزدهر عندما ترتفع أسعار المعادن بشكل كبير بما في ذلك أسعار معادن الخردة (السكراب)، خصوصا الأشياء التي تحتوي على النحاس والحديد والألمنيوم والرصاص والصفر. مرت علينا سنوات قام فيها اللصوص بسحب وقطع الكابلات الكهربائية المحتوية على كميات كبيرة من النحاس، ومن ثم بيعها لتجار الخردة الذين يقومون بصهرها في أفران عالية الحرارة، تذيب جميع العوازل والمغلفات لتبقى فقط مادة النحاس، ومن ثم بيعها للمصانع المتخصصة بأسعار قريبة من سعر النحاس الجديد. كذلك عندما ترتفع أسعار الحديد تزداد شهية هؤلاء اللصوص للمنتجات الحديدية المستعملة كافة، حتى وإن كانت مجرد أغطية لمخازن المياه الآسنة أو أعمدة لمظلات سيارات أو شبوك مزارع ومستودعات.
تشكل خزانات المياه المفتوحة خطرا كبيرا على المارة وتتسبب في حوادث للسيارات عندما يحاول السائقون تفاديها. تزن بعض الأغطية الحديدية أكثر من 100 كيلوجرام، لذا قام بعض العصابات بتثبيت مفكات أغطية في أسفل شاحنة تقف فوق الغطاء وتقوم بفكه ونقله بسهولة تامة. في مدينة بوغاتا في كولومبيا قامت السلطات باستبدال جميع الأغطية الحديدية بأغطية بلاستيكية للحد من الظاهرة، إلا أنها لم تقض على المشكلة بشكل كامل، حيث ظهر هناك من يقوم بسرقة الأغطية البلاستيكية لبيعها على بلديات المدن الراغبة في استبدال ما لديها من أغطية حديدية! وهناك من ابتكر وسائل إلكترونية للحد من المشكلة بوضع شرائح إلكترونية داخل الأغطية تطلق صافرات قوية عند تحريكها، وفي بعض الدول توضع علامات سرية على الممتلكات المعدنية لا ترى إلا باستخدام كاشفات ضوئية خاصة لدى تجار الخردة، بحيث يستعين بها التاجر لمعرفة المسروقات. كما تم سن بعض الضوابط على تجار الخردة تشمل تسجيل اسم البائع ومصدر البضاعة ومن ثم الإبلاغ عن أي مسروقات محتملة. لا أعلم ما التنظيمات المتبعة لدينا في المملكة؟ ولكن من الواضح أن هناك نشاطا كبيرا لتجارة السكراب، تلحظه في الإعلانات المبوبة في بعض الصحف، لدرجة أن هناك من يتولى هدم المباني بالمجان ليتمكن من الاستحواذ على ما فيها من حديد ومنتجات معدنية مختلفة.
المشكلة بطبيعة الحال اقتصادية بحتة، يجد السارق من خلالها فرصة ثمينة لتحقيق موارد مالية بطريقة سهلة وعملية، خالية من الصعوبات التسويقية اللازمة في حال سرقة ممتلكات أخرى، وذلك لأنه بعد الصهر تصبح البضاعة المسروقة مادة خام عديمة الهوية وقابلة لإعادة التصنيع مرة أخرى، ربما كمنتج مختلف تماما عن نسخته القديمة. يصل سعر طن الحديد المقطع هذه الأيام إلى نحو 1300 ريال للطن، ويصل في بعض أنواع النحاس إلى نحو 20 ألف ريال للطن، وإلى نحو أربعة آلاف ريال لطن مخلفات الألمنيوم وكذلك الرصاص، ويصل طن الصفر إلى نحو 15 ألف ريال، وأخيرا نحو خمسة آلاف ريال لطن الستانلس ستيل. وتتفاوت هذه الأسعار تبعا لحركة المعادن في الأسواق العالمية، التي تتأثر هي بدورها بحجم الطلب في الدول الصناعية الناشئة كالصين والهند والبرازيل وروسيا، إلى جانب الدول الصناعية الأخرى. لك أن تتخيل جاذبية سرقة الكوابل النحاسية بملاحظة أن سعر النحاس في أسواق السلع المستقبلية يراوح بين عشرة آلاف ريال و40 ألف ريال في السنوات الخمس الماضية، وحتى الحديد راوحت أسعاره بين 700 ريال و 4700 ريال للطن خلال هذه المدة.
تتجلى هذه الظاهرة حتى في حالة استقرار أسعار المعادن، كما هو الحال هذه الأيام، وذلك لكونها ترتبط بالوضع المالي للأفراد، فيلجأ بعض ضعاف النفوس من أصحاب الدخول المتدنية لممارسة سرقة المنتجات المعدنية لزيادة الدخل. وبالطبع هناك الكثيرون ممن يقومون بالمتاجرة بالسكراب بطرق مشروعة، ناهيك عن الفوائد العظيمة لإعادة تدوير المعادن. بحسب تقديرات وكالة حماية البيئة الأمريكية، فإن إعادة معالجة الحديد المستعمل تخفض من استخدام الطاقة بنسبة 75 في المائة مقارنة بصناعة الحديد التقليدية، وتوفر 90 في المائة من المادة الخام، وتخفض تلوث البيئة بنسبة 86 في المائة وتحد من كميات المياه المستخدمة بنسبة 40 في المائة، وتحد من مخلفات المناجم بنسبة تصل إلى نحو 100 في المائة. توجد في المملكة سوق كبيرة لتجارة السكراب ازدهرت بشكل كبير عقب قرار السماح بتصدير السكراب للخارج، الذي صدر بقرار من مجلس الوزراء قبل نحو ثمانية أعوام. وبحسب بعض التقديرات يبلغ حجم هذه التجارة في المملكة نحو 30 مليار ريال سنويا، وبدأ بعض الشباب السعودي اكتشاف هذه التجارة المربحة في السنوات الأخيرة وذلك برؤوس أموال متواضعة لاستئجار مستودع مناسب وتجهيز ورشة عمل تحتوي على معدات لكبس الحديد وضغطه وآلات لفرز المعادن وتقطيعها بأحجام متعددة.
هذا من ناحية الأنشطة النظامية في هذا المجال، غير أن ظاهرة سرقة المعادن المستعملة بحاجة إلى حلول مناسبة للقضاء عليها، وقد يكمن الحل في مراقبة ومساءلة من يقوم بتسويق المعادن المستعملة ونقلها كيلا تصبح عملية سهلة وجاذبة لكل من يبحث عن الكسب السريع، ثم يجب أن تكون هناك عقوبات شديدة للمصانع والورش التي تشتري هذه المنتجات دون الالتزام بضوابط التعامل بها. إن تصعيب عملية تسويق المسروقات والتخلص منها سيحد من نشاط لصوص المعادن حينما لا يجدون من يشتريها، خصوصا أن من تشتري هذه البضائع عادة تكون منشآت كبيرة نسبيا ممن يمتلك المعدات والأيدي العاملة لمعالجتها، وبذلك ربما تسهل عملية السيطرة عليها من قبل الجهات المختصة.