على كل ضامر
مفردة الحج تقرأ بأبجدية الباطن، بحروف اليقين التي تجعل كل التسلسل لشعائره وأحكامه، وكل التفاصيل فيه، محض إجابة خاشعة مستكينة لمالك يوم الدين، الخالق والمُبدي والمُعيد، والمُنتهى حين إذ يصبح الحج عودة تامة كاملة لله وحده، في مفهوم ديني ثابت يجمعه معنى التطهر، والقرب، وضراعة القبول الأخيرة لله من عبده.
الحاج تجرد لربه من كل شيء، وحرم على نفسه طواعية زوجته، وطيبه، والنظر إلى ذاته، أو تمييزها عن أحد من خلقه، وجاء يرمل إليه بثوب القبر الأبيض إشهارا لفقر حقيقي لا يملك أن يخفيه، ولا يستطيع أن يرده عن نفسه.
دون حس الإيمان بالغيب الحاضر والعميق، ودون هذا اليقين بالعودة إلى الله، ودون استحضار لحظة الجمع لله، ولحظة الانكشاف العظمى أمامه، ودون اليقين بلحظة السلب القاهرة من الحول ومن القوة، ومن الطول ومن كل شيء يمكن للعبد أن يركن إليه، أو يستعين به، غير رحمة الله له، ومغفرته وقبوله.
إن لهذه الفريضة أفئدة كثيرة تعيش الوله الغالب لها، بوصفها توحدهم مع ذاتهم، وتجعلهم في أيام معدودات في تجل لا أفول له، بين أرواحهم وربهم، هذا الحس الذي لا يتكرر، لا يمكن أن يلتقطه أحد من العباد، خارج هذه الأنهار من الأرواح الطاهرة السادرة بكل قوتها، بكل يقينها، بكل ضعفها، بكل حزنها على ماضيها، بكل الرجاءات العظيمة البتول، المعلقة بخيوط الرجاء في رحمة ومغفرة ونظرة رحيمة تفيض عليهم. إن لم تكن مع الطائفين، لعلها تأتي مع الركع السجود، أو في مهانة التقاط حصى المشعر الحرام، لعلها في بيتوتة منى، التي ينسج الحاج أمانيه بدموعه، وحزنه، وتلاوة أيام دنياه، وتلك الخلوات التي فقد فيها طهارة نفسه، وطهارة جسده بسيئة خاف الناس منها أكثر من خوفه من الله الشاهد لها، والشهيد غدا عليها.
لعله تشمله المغفرة وهو يتذلل إليه بالتحليق، أو بمكابدة عناء السعي وتكراره. لعلها تأتيه في المسعى الأول، ربما تصيب في الثاني، أو الثالث أو الأخير .. السعي المتكرر في طلب الكريم الخالق الرحيم الرؤوف.
الرحمة في الحج غاية سامية غامضة على الحاج الذي لا يملك إلا نسكه، ويقينه أن مغفرة ما .. تنتظر فراغه من نسكه، أو هي ستأتيه في سبيل من سبل الحج المفتوحة سبله على جنات النعيم، في لحظة اللقاء العظيم، والانكشاف الأعظم في يوم عرفة الذي يعرف فيه العبد نفسه وربه وقضاءه الذي لا يمكن كشفه. ولا سبيل لمعرفة غوامضه.
كل المصائر في الحج متقاربة، كل القلوب فيه متقاربة، كل النفوس فيه متقاربة، كل العباد والخلق والحجيج فيه متقاربون، كل رحمة هي قريبة المنال، قريبة الإصابة، قريبة الجنى، عظيمة الجنى. هي لحظة نادرة قد لا تكرر في العمر كله، لحظة موسى عند قبس النور والتجلي العظيم على قلــبه }إني أنا الله رب العالمين{.
ربما لهذه الأسباب يرغب كثيرون في تكراره، والعودة إليه، وعدم الانقطاع عنه، ولو على كل ضامر من كل فج عميق.
ولا يمكن أن يكون هذا القصد إلى الله بكل هذا الجلال والجمال، معصية بحال من الأحوال كما يزعم بعضهم، وبقول مرسل غاية سببه استحسان شخصي لا يتسع لغيره. تتباعد عنه أرواح فيها وله سرمدي لوهجات النور والتجلي الرحيم بالحج وشعائره وحرمه المحرم.