سوق الحج
إلى أي مدى يمكن تحويل موسم الحج العظيم إلى سوق للبيع والشراء؟ للوهلة الأولى، قد تكون فكرة "حج وبيع سبح" متعارضة مع روحانية الموقف والحدث، فالحاج يأتي قاصدا تأدية هذه المناسك المحددة بلا نواقض طلبا للقبول من ربه الكريم، وقد لا يكون من الملائم انشغاله بالبيع أو الشراء وبقية الأفعال الدنيوية التي تفقده التركيز وتبعده عن المقصد الذي عزم عليه. ولكن الفتوى تذكر بأن للحاج القيام بفعل البيع ولو نوى الحج في الأساس، فالآية الكريمة تقول "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ"، والتاريخ يشهد كذلك بإقرار الإسلام الاتجار في أيام الحج وتمكين المسلمين من التزود بالاحتياجات واستغلال ما تمنحه فرصة التجمع أثناء هذه الأيام المباركة.
وهكذا تظهر لنا سماحة الإسلام بالتوفيق بين المتطلبات الدينية والدنيوية التي من الطبيعي أن تكون ضمن حدود العدل ذات الأولية الدائمة في ديننا الكريم. وهذا يعني أن خروج هذا الغرض الثانوي ــــ غرض البيع أو الشراء ــــ من دائرة العدل يستوجب التوقف والتنبه؛ أولا لأن هذا الغرض افتقد للعدل وهو متطلب شرعي أساسي ومهم، وثانيا لأنه يتحول إلى استغلال دنيوي للدين، وهذا من أبشع صور الاستغلال التي يمكن أن تحدث لما يشعر ويؤمن به الناس.
إذا تحولت المشاعر المقدسة إلى ميادين لممارسة صور الرأسمالية البشعة يجب التوقف، وإذا تزود الغني من موسم الحج قبل الفقير فيجب التوقف أيضا. وإذا عجز فقير الحرمين عن الاستفادة من الحاج أو مُنع الحاج عن الاستفادة من أفضال رب العالمين من حوله لإتمام مسيرته، أو رتبت أموره بطريقة تجمع الهلل من جيوب الفقراء وتحولها إلى ملايين في جيوب الأغنياء فيجب التوقف دون أدنى شك.
مما يستدعي الملاحظة كذلك أن البيع والشراء في موسم الحج لا يقتصر على مواقع المناسك فقط، فطريق الحاج من أول محطاته يتحول إلى أسواق محتملة ومؤثرة. وأول ذلك سوق التنقل والبيع والشراء لتذاكر السفر الذي ينتعش لأصحاب المركبات والناقلين التي قد لا تصل وسائلهم لأرض الحرمين في الأصل، ويتبع ذلك سوق الوسطاء ومنظمي الرحلات ومخلصي التأشيرات والمنافذ وخلاف ذلك في بلد الحج وبلدان المسلمين غيره. وهذه أول محطات الاستغلال، إذ يكفينا ما نسمعه من ارتفاع تكاليف حملات الداخل وما يحصل للحاج القادم من الخارج قد يكون أدهى وأمر.
ترتفع أسعار مشغلي الطائرات المؤجرة ــــ المؤقتة ــــ خلال موسم الحج مما ينبئ بحجم المنافسة التي تحدث بين مقدمي الخدمات، وهي منافسة تحدث على مستوى الشركات الكبرى استغلالا لهذه الفرصة الكبيرة. وعلى الخط نفسه، ولكن على الجانب الأصغر منه تشتد أنشطة النقل الخصوصي الذي يعد عملا غير نظامي قد يتم التغاضي عنه. وتذكر قصص الصحف المحلية بأن هناك العديد من الرجال والنساء الذين يعدون العدة بالسفر من قراهم ومدنهم قبل الموسم بأسابيع للاستقرار في مكة والمناسك بيعا لسلعهم المتنوعة.
حتى الشركات المحلية الكبرى بما فيها مقدمو خدمات الاتصالات والخدمات المالية ومنتجو المواد الغذائية والأطعمة يتنفعون من الموسم بالاستعداد المبكر والانتشار الجيد ويحققون بكل تأكيد إيرادات جيدة وربما ممتازة، لذا يبقى السؤال: هل تحوز بقية الأطراف على فرصة عادلة هنا؟ وأنا أعني ببقية الأطراف شباب الأعمال والأسر المنتجة والمؤسسات الأصغر حجما وخصوصا أن هذه الفئات - المهمة جدا في أي مجتمع ــــ تستفيد أساسا من التظاهرات والمهرجانات المحلية والتجمعات الكبرى التي تحدث في نطاقها، وليس أجمل ولا أفضل من الحج موسما متكررا ومتاحا.
فوضوية البيع والشراء في الحج أو تيسير ذلك لفئة دون الأخرى لا يحقق حكمة الشارع في السماح بمرادفة السوق لهذه العبادة تحديدا، بل يصنع أثرا عكسيا في مجتمع الحج وبقية المسلمين. وعلى الرغم من الجهود المعتبرة التي تبذلها وزارة الحج وبقية الجهات في تنظيم كل الأنشطة المصاحبة للحج إلا أن توجيه الإمكانات والتنظيم قابل للمزيد من التطوير؛ ومن ذلك توزيع فرص المتاجرة بين المستحقين وحماية المستهلكين وتحقيق المزيد من المنفعة للأقل حظا. وهذا يعني اهتمام مراكز المعلومات وفرق العمل والتنفيذ بما يحقق العدالة في سوق الحج، وهذا مثل بقية الأمور الأخرى التي تستوجب التحقق كل موسم، وننتظر منها أن تتطور كل موسم.