القنوات الفضائية ورسالتها
كتبت قبل عدة سنوات مقالا عن القنوات الفضائية أسقطت بعض النماذج والنظريات الإدارية على مسيرة تلك القنوات. ومقالي هذا لا يختلف كثيرا عن السابق، إلا أنه سيتم التركيز هنا على محورين أساسيين: الأول يُعنى برسالة القناة ـــ والرسالة والرؤية كما نعلم ـــ مصطلحات إدارية لها علاقة بالاستراتيجية والجودة الشاملة والمقدرة على بنائها من الأساسيات في نجاح المنظمات. والمحور الثاني له علاقة بالنواحي التشغيلية من برامج وفعاليات عن طريقة مقارنة برامج ومهام القنوات الناجحة التي تعرف بالضبط ماذا تريد بالقنوات الأخرى المشابهة لها والمختلفة عنها.
القنوات الفضائية هي منظمات، منها الرائدة، ومنها التابعة، ومنها المستثمرة. فالرائدة هي قنوات لها رسالة واضحة تدور حولها وتحدد اتجاهها. ورغم أنني لم أطلع على نص الرسالة الفعلية للقنوات الرائدة، إلا أننا يمكن أن نستشف وبسهولة ذلك من خلال ما تقدمه من برامج، وأنشطة، وتغطيات، وفعاليات. وحتى تتضح لنا الصورة أكثر دعونا نَغُرْ قليلا في العمق الفلسفي لكيفية بناء رسالة المنظمات بشكل عام. نرى بعض المنشآت تحاول جاهدة توثيق رسالتها بعد أن تهذبها وتعيد صياغتها حتى تكون أقرب إلى المثالية، ولكن السلوك التنظيمي واتجاه المنشأة مغاير تماما لما هو موثق في نص الرسالة. وهذا النوع من رسالة المنظمات لا معنى له طالما لم يعكس بالفعل ما بداخلها. فليس المهم أن تكتب الرسالة، بل أن يمارس محتواها كعقيدة تؤمن بها وتذود عنها. وأنا هنا لا أتحدث عن المعنى الاصطلاحي لكلمة "عقيدة"، بل المعنى "اللغوي". وقد بينت في عدة مقالات سابقة أن مصطلح "الرسالة" مرادف تماما لكلمة "عقيدة"، فالشركة التي ليست لديها رسالة لا يمكن أبدا أن تكون بداخلها عقيدة، وهذا يعني أنها ليست لها هوية. ولهذا تطالب معايير الجودة الدولية المنظمات بترسيخ رسالتها أولا ليس فقط توثيقها كتابيا، بل ممارسة محتواها فعليا، والتصديق بها إيمانا واعتقادا كمذهب طائفي يلم به شتاتها ويضم به أطرافها.
ولو أردنا أن نسقط كل هذا على القنوات الفضائية التي تفرض نفسها في الساحة، نجد أن بعضها لها رسالة واضحة وعقيدة راسخة، جميع منسوبيها ومشاهديها يؤمنون بها، ونستطيع أن نقول إن بعض هذه القنوات استطاعت أن تجمع بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي لكلمة "عقيدة". وتتضح رسالة تلك القنوات من برامجها وأنشطتها وتنوع مهامها وسيرها بثقة نحو غايتها. انظر إليها كيف تدعم الشعوب المنكوبة، والنقائص الطبيعية والاجتماعية التي تعترض بعض الدول كالفقر والجهل والمرض والفيضانات، وكيف تكشف بهدوء المؤامرات الدولية التي تحيك بالبعض الآخر. أما تلك التي ليست لديها رسالة فنجدها تعرض اللهو المباح وغير المباح، الجد منه والهزل، تتباين برامجها وتتبدل مناشطها دون هدف واضح.
هذه القنوات ليست لديها رسالة ولو كتبتها بماء الذهب، رغم أن اللعب بالمتناقضات من سجايا المنظمات الناجحة، إلا أن التضاد دون أن يكون للمنشأة رسالة يعني ضياع الهوية.
انظر إلى القنوات الفضائية التي ترسخت رسالتها، تجدها سائرة على منهجها، متمسكة بقيمها الجوهرية، مصرة على مبادئها، محتفظة بنص وروح رسالتها. نرى ذلك من خلال دورانها حول محورها، وتفاعلها مع قضايا أمتها، وتقديسها صلب عملها. فلو أخذنا الإبادة التي يتعرض لها بعض الشعوب على يد الطغاة في سورية وغيرها منذ عدة سنوات، نرى كيف تقف تلك القنوات مع تلك الكوارث ملتزمة بولائها لهم مهما تغيرت البرامج وتنوعت المناشط واختلفت الفعاليات؛ لأن محاربة الظلم جزء من رسالة تلك القنوات. وليس الأمر محصورا عند هذا، بل نراها تصول وتجول مشرقة ومغربة مع المتضررين في باكستان، والجوعى في الصومال تتحرى وتدافع وتناضل وتجمع التبرعات من أجل ألا تخرج من مضمون رسالتها سر تألقها.
ولا تقل لي إن هذه سجية كل منظمة لها هَمٌّ قومي أو توجه عقدي، فنحن نرى منظمات تقدم نفسها على أنها منظمات قومية أو دينية وترفع شعارات عقدية، إلا أننا لا نجد لها أثرا في الواقع. فهي تعمل على استحياء، وقد تغير مواقفها لاعتبارات اجتماعية أو أخرى سياسية، وبعضها لم يبق لها سوى اسمها، نراها معزولة منزوية لا تؤثر ولا تتأثر بأحداث الزمن، تعيش في غير واقعها، تتغنى ببطولات أبنائها قبل عشرات القرون. تراها تتبنى المثالية، فتعرض نظريات الإسلام في العبادات والمعاملات، إلا أنها بعيدة عن واقعها، غريبة عن بيئتها، لا تراعي تطور الحياة ولا حركتها.
أما تلك التي تحافظ على الجوهر وتحفز التقدم، فعلى النقيض تماما، تعيش حاضرها، وتتمسك بأصالتها، وتغيب عن منزلك ولا تخشى أن يخلفك على أهلك أو أبنائك فيلم عاهر، أو لقاء ماجن، أو "أراب آيدول".