الطموح البرازيلي
.. عشية رأس السنة من كل عام يزحف عشرات آلاف المؤمنين بديانة "الفودو" ــــ تعتمد السحر والشعوذة وطقوس تعبدية وثنية ـــ إلى شواطئ مدينة ريو دي جانيرو، يحملون الشموع والهدايا لتقديمها لآلهة البحر المبجلة "ييمانجا"، ويمارسون عملهم الوثني في أكبر دولة كاثوليكية في العالم. في البرازيل التسامح ليس معنى مطلقا، بل ممارسة عادية تجعلهم لا يتعاطون مفردة تسامح لأنهم لا يحتاجون إليها. وأمرٌ غريب، الكنيسة الكاثوليكية من أكثر كنائس الطوائف المسيحية تعصبا وتمسكا بالأصول الإنجيلية حسب تطبيقاتها وتفسيراتها، ومنطقا لا يمكن أن تنظر بعين الراحة لطيف ديني جديد، ولم تعارض ديانة سحرية وثنية. وصار شيء أغرب، هؤلاء الوثنيون المؤمنون بقوة السحر والسحَرَة لجأوا للاعتقاد بدين مسيحي كاثوليكي مخلوط مع قوة الإيمان بـ "الفودو"، والكنيسة في البرازيل لا تنبس ببنت شفة.. ولو كانوا في البلد الذي أخذوا منه الكاثوليكية - البرتغال، لصنفتهم الكنيسة حالا من أبناء الجحيم.
من ناحية أخرى، تتقاطر ألوف السيارات والشاحنات والحافلات يوميا من مصانع ساو باولو، المدينة نفسها التي تقبل "الفودو" الوثنية.
البرازيل جوهرة التوسع الاستعماري البرتغالي وكنزها الأكبر، لذا دان الناس بالكاثوليكية، والبلد الوحيد الناطق بالبرتغالية، وفي مدن حدودية يتكلمون الإسبانية كلغة أم. البرازيل دار أوبرا أنيقة وسط أدغال الأمازون، بلد الفخامة و"الماركات". وستجد في شوارع ساو باولو، وريو دي جانيرو، وبرازيليا العاصمة، أكثر محال الأزياء والعطور و"الماركات" العالمية وأكثر الناس أناقة، وهذا سر أن معظم العارضات من البرازيل.. وتبقى جهة سوداء من البرازيل، وهي أحزمة الفقر في الربطة العشوائية التي تحيط بكل مدنها الكبيرة، حيث أرخص شيء فيها.. الإنسان!
استرسلت.. والذي أريد أن أقوله هو عن ما يسمى "طموح القوة العظمى" وهذا البرنامج الذي جعلني أقرأ كثيرا عن البرازيل في كل النواحي. ومع أنها تقدمت، لم تحقق طموحها العظيم.
تبدأ القصة من مخططين اجتمعوا بعد أن تعلموا في أعلى جامعات العالم ليضعوا خطة استراتيجية لتكون البرازيل بعد أربعة عقود من الدول العظمى الأولى في العالم.. ووضعوا الخطة، ومنهجوها، وربطوها مع الواقع والرتم البرازيليين الفريدين.. وبقي كما قال أحدهم: "نريد الوقود لنحرك هذا البرنامج"، فوضعوا كلمة طموح، وهذا الصحيح فما أضيق العيش لولا فسحة الطموح.
لم تنجح البرازيل بعد مضي 40 عاما أن تصبح كما في خيال الشباب المخططين. كانت تصارع لتتقدم، وكان الفساد دائما هو الوجه الآخر والفقر وراء كل قفزة للتقدم فيخطفان قدمها ويحاولان إعادتها للانخفاض بعد علو.
في الحكومة الجديدة، رغم الثورة عليها بسبب الصرف في الأولمبياد الذي تعرفونه، إلا أنها قضت على نسبة كبيرة من الفساد والفقر والجريمة، وصعدت في السلم الاقتصادي الاجتماعي.
درس البرازيل هو أنه حتى للدول طموح، وهذا الطموح يكون حقيقيا ليفخر الإنسان بأمته، وليس ليدس مالا في جيبه، أو يخترع مشاريع لمصلحته، أو يتفق مع شركات عالمية استشارية تخترع أشياء فقط لأنها مصلحية، أو توضَع خططٌ لا يعرف عنها حتى واضعها.
أكبر نتيجة للتنمية الجادة الحقيقية هي أنك لما تكون خارج بلدك ينظر إليك بإعجاب، ومن يسرقون ويتلاعبون، هم من يسيئون لسمعة البلاد ويشوهون وجهها بجروح عميقة.. وسيصيبهم من السمعة ما يمس باقي مواطنيهم.
هذه العقلية "عقلية الطموح الوطني الحقيقي" في بناء أي أمة، يجب ألا تغيب أبدا.
ملاحظة: لم أزر البرازيل.. بعد!