الهوى أهم من الحقيقة في قضية الهيئة والبريطاني

المتبعون للهوى والظن يتناسون قوله سبحانه (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم: 28).
جرّت واقعة ما يعرف بالبريطاني وزوجته مع أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردود فعل كثيرة. وقد أظهرت ردود الفعل تلك كثيرا من العيوب في تناقل الأحداث والأخبار. تتلخص هذه العيوب والمساوئ في تقديم الهوى على مبدأ التثبت أو البحث عن الحقيقة أولا، وإلا عف اللسان عن القول بغير علم.
للواقعة جوانب كثيرة، وأهم جانب كما أرى هو ما حقيقة ما وقع؟ بغض النظر عن الجوانب والاعتبارات الأخرى.
النزاهة والعدالة تتطلب التثبت. المؤسف أن يتبنى كثيرون مواقف، بناء على معلومات لم تثبت. ما حملهم على ذلك؟ هل لديهم الموارد التي بواسطتها أمكنهم الوصول إلى الحقيقة أو محاولة الوصول إليها. طبعا لا، ولكنه اتباع الهوى.
من أكثر ما يلفت الانتباه ضعف أو تساهل الناس، وأقصد بذلك الأكثرية كما أرى، في بحثهم عن الحقيقة وتثبتهم قبل إبداء الرأي. غالب ما رأيته، فيما يخص البحث عن الحقيقة (للتأكيد فإن الجوانب الأخرى في الحادثة خارج نطاق المقال)، هو تبني مواقف أولا، ثم تكييف الوقائع والأخبار لتتناسب مع المواقف. أي أن الوضع صار مقلوبا. بدلا من أن يكون الهدف الأول البحث عن حقيقة ما وقع، ثم إبداء الرأي أو الحكم بناء على ذلك، أصبح الهدف الأول اتباع الهوى: الانحياز ابتداء مع أو ضد طرف في الواقعة، وإخضاع ما يرد من معلومات وأخبار لخدمة هذا الهدف. كثيرون بحثوا في الإنترنت عما يوافق أهواءهم فأرسلوها إلى الآخرين، دون أن يتثبتوا في صحتها أو على الأقل مصادرها. بحثوا عن مثال بعينه يتفق مع مرئياتهم، وتجاهلوا مثالا لا يتفق.
كثيرون وضعوا لأنفسهم تصورا كيف وقعت الحادثة، وبنوا عليها أحكاما. من هذه الأحكام تخطئتهم للجنة التحقيق، بل ربما اتهموها بالميل عمدا عن الحق، واتباع الضلال في تحقيقها. وعندما تسأل من أين لك ذلك التصور؟ ومن أين لك أن الحادثة وقعت هكذا جزما؟ من أين لك العلم واليقين أن لجنة التحقيق ضلت السبيل في تحقيقها؟ لا تجد جوابا مبنيا على علم وعدل. لا أعني أن عليهم موافقة اللجنة فيما عملت، ولكن عليهم وجوبا ألا يحكموا من غير بينة ودليل لا إشكال فيه.
انتشرت مقاطع عن خطاب تظلم يطعن في هذه اللجنة وما عملته. تسأل عن صحة ومصدر الخطاب، فلا تجد علما ينتفع به. من لا علم عنده، عليه أن يمسك، لأنه محاسب بما يقوله أمام رب العالمين. أضعف الإيمان أن يذكر صراحة أنه غير متأكد من صحة ما نقل. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (سورة ق 18).
الأصل افتراض العدل والنزاهة في أعضاء لجنة التحقيق، وخاصة أنهم مسؤولون. هل يدرك الطاعنون أثر وتبعات طعنهم؟ للكارهين للهيئة لأي سبب أن يتخذوا الطعن حجة لهم ضد الهيئة. سيقولون لا مصداقية للهيئة لأنه مطعون في مصداقية مسؤوليها وفي تحقيقاتها.
سرعة الاتهام، والميل إلى تصديق أو الدفاع عن ونشر الأخبار غير الثابتة لمجرد اتفاقها مع الهوى، والميل للجانب السلبي في تناول الأخبار وتفسير التصرفات، كلها عبارات ذات معان متشابهة. والجامع بينها هوى وعواطف وسوء ظن. وكلها تعني تلقائيا إصدار الحكم ولو ظنا على الآخر قبل التأكد من ثبوت التهمة أو الخبر.
لو كان الناس يتثبتون قبل تصديق الأخبار والروايات وإصدار الأحكام على الآخرين، لما وجدت الفتن سبيلا لها أصلا. والقصد بالتثبت التأكد من صحة المعلومات ودقتها، وكذلك العدل والنزاهة في الحكم على الأفراد والمؤسسات بغض النظر عن الرأي الشخصي في المحكوم عليه، لكنه خلق سوء الظن المسيطر.
للواحد أن يكره من يكره وأن يحب من يحب، لكن ليس له أن يحيف عن طلب العدل. ما العدل؟ ألا تسلب الناس حقوقهم رغم كرهك لهم، وألا تعطيهم أكثر من حقهم رغم حبك لهم.
تطبيق ذلك صعب، لأنه يتعارض مع ما تهوى الأنفس.
اللهم أصلح أحوالنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي