رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


متاهات السفهاء

«وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، هذه قاعدة قرآنية في السلوك الاجتماعي في دائرة إدارة الذات مع الجهل وأهله ودون ريب دلالة الآية بتفسير القرآن بالقرآن مع إضافة (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). بتأمل عبارة الخطاب هناك مختلفة عن عبارة السؤال هنا. هناك يخاطبك الجاهل مع قناعته التامة بالندية لك، هو الجهل المركب من الجهل مع جحود صاحبه لجهله، ولذا يسمى مركبا أي الجهل والجهل به.
أما الجاهل البسيط ومن لا يعرف من الطبيعي أن يسأل لأنه يُقرر أمام نفسه وغيره أنه ليس بعالم ولا يملك العلم، وأنه يحاول أن يتعلم ويحاول أن يكتشف وأن يدرك وأن يصل للحقيقة التي يبحث عنها والتي يريد البلاغ إليها.
ماذا يعني الإعراض الذي مدح الله سبحانه وتعالى فاعليه؟ يعني ترك الجاهل مدعي المعرفة، لجهله، وللمعرفة المتوهمة في عقله، أي الخروج من - متاهة السفه - التي تماثل تماما في المنهج العلمي حركة إدراك المجنون للأشياء من حوله، وتصوراته الخاصة به. فهو لا يقبل شيئا من خارج ذاته بخلاف تصوراته هو، فهو يعيش كما يرى نفسه، حين يُخيل إليه أنه ملك تجده ينطلق للتعامل مع من حوله بوصفهم إما عبيدا وإما رعايا يعطف عليهم ببعض رعايته. مهما سعيت أنت لتخبره أنه إنسان بلا مُلك وأنه إنسان بلا سبب صحيح يجعله ملكا، لن ينفذ الكلام إلى عقله المغلق على صورة واحدة فقط لا تختلف ولا تتعدد، وكذلك الجاهل الذي يجهل أنه جاهل.
في الفلسفة وعلم المنطق - الحكم على الموضوع فرع لتصوره - فأنت ليس بوسعك مهما آمنا بقدراتك العقلية الفذة ومهما سلمنا بنبوغك النادر الذي لا يتكرر، لا نستطيع أن نوافق على أن يكون لك حكم على موضوع أنت لا تفهمه فهما صحيحا وتاما غير منقوص، لأن الفهم الناقص ينتج حكما غير تام، هناك دائما تسلسل منطقي في الحكم على كل شيء وهناك سير عقلي طبيعي يجب أن يسلكه كل إنسان قبل أن يبدي قناعته الأخيرة في أي موضوع ذي شأن ..
ولذا حين يتكرم علينا البعض بقناعاتهم الإلحادية، أو بكفرهم بهذه الجزئية الفقهية، أو ردتهم عن بعض العقائد الدينية، هذا القول المُرسل يُعتبر في إطار العلاقة بينه وبين الله، وهذا الإيمان لا صلة لأحد به، ولا أحد غير صاحبه معنيا به "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"و "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إن هي إلا تذكرة لمن يخشى" و"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" و "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" وبهذا إشغال الناس بهذه القناعات الشخصية، سفه يفضح صاحبه، لأنه يُشاغل الناس بما هم غير معنيين به، ولا قيمة له في دنياهم ولا في معادهم. وهو يشي بحجم جنون العظمة المرضي الذي يجعل صاحبه يطل على الناس ليخبرهم بعقائده القلبية المتكفل بها الله وحده وكأنه نبي يُفصح عن باطنه ليسعى المؤمنون به ليتبعوه ويهتدوا بسنته ويسلكوا سبيله، وهذا داء وبيل من جنون العظمة الأجوف، والفارغ.
ولو أن أحدهم ساق هذا الإيمان أو ذاك الكفر في دليل اتبع فيه منهج البحث العلمي، وقدم المقدمات العلمية التي أوصلته إلى هذه النتيجة أو تلك، لكان حينئذ باحثا وطالب حق يحترمه الجميع وإن لم يسلموا له بصحة ما انتهى إليه من نتائج في بحثه. وهذه سيرة المساجلات العلمية عبر التاريخ.
وهذا ما لا تجده في ذاك الفريق الذين يمثلون متاهة جهل مركب، الدخول فيها لا يأذن بالخروج منها، ولا ينتهي إلى شيء من الخير أو الحكمة، ولعل هذا ما يبرر وصف الإعراض عنهم من دلائل الحكمة وسلامة العقل وحسن اختياره، وراحة للقلب والنفس والناس كافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي