رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هل نتجرع «الدواء المر» لمعالجة متلازمة البطالة والعطالة؟

تشكو معظم الدول العربية- مع الأسف- من مستويات منخفضة في نسب مشاركة السكان في قوة العمل مقارنة ببقية دول العالم، بحسب التقديرات الإحصائية لمنظمة العمل الدولية (ILO) الموجودة على موقع البنك الدولي لسنة 2012، فتتراوح النسبة فيما بين 40 و56 في المائة لثلثي الدول العربية الأكثر سكانا، بما فيها مصر 49 في المائة، والسعودية 52 في المائة مقارنة بمستوى نسبة معظم دول العالم، حيث يتعدى 58 في المائة. ومع أن الصورة تتحسن إذا استثنينا النساء، إلا أن الدول العربية الكبرى تبقى في النصف الأسفل من القائمة حتى عند مقارنة النسبة الخاصة بالرجال، إلا أنها تسوء إذا ركزنا على المواطنين؛ إذ إن هذه الإحصاءات تشمل العمالة الأجنبية (وتتعلق بالسكان فوق سن الخامسة عشرة فقط). إذا أضفنا البطالة المقنعة إلى البطالة الرسمية أو ما أسميه (العطالة)، فمن المتوقع أن نسبة التوظيف الفعلي أو المنتج أسوأ، حيث إن جزءا كبيرا من التوظيف يقع في القطاع الحكومي، مع ما هو معروف عنه من حيث الإنتاجية نسبة إلى القطاع الخاص في دولنا. أخذاً في الحسبان الأهمية التي توليها الآن الحكومات العربية والخليجية (بما فيها حكومة المملكة) لمعالجة ارتفاع البطالة بين الشباب لدوافع اقتصادية واجتماعية وسياسية، فمن المهم التطرق إلى السياسات المطلوبة لمعالجة هذه المشكلة العصية (في منطقتنا بالذات).
هناك عدة أبعاد للمشكلة. أهم الأبعاد والعوامل هي (1) القيم والأخلاقيات المجتمعية المرتبطة بالعمل، (2) عدم التوازن بين العرض والطلب في فئات الوظائف المناسبة للمواطنين في سوق العمل كماً ونوعاً، (3) سياسات التنمية البشرية الخاصة بالتعليم والتدريب والابتكار والمباداة، (4) سياسات التنمية الخاصة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. إن الحلول الاستراتيجية المطلوبة لمعالجة هذه المتلازمة تقابل الأبعاد الأربعة المذكورة أعلاه، وسأطرح توصيات تخص كلا منها بشكل تسلسلي فيما يلي:
أولاً، فيما يخص القيم والأخلاقيات المجتمعية المرتبطة بالعمل، فإنه من الواضح في بلداننا، والسعودية ليست مستثناة، أن هناك عقلية (استحقاق) ما بين الشباب تجاه الحكومة، فهناك قناعة بأن على الدولة ليس فقط تنفيذ السياسات التي تشجع العمل وخلق الوظائف، وإنما تمتد إلى تأمين الوظيفة للمواطن (مع توقع مرونة كبيرة فيما يخص الإنتاجية المطلوبة منه عند حصوله عليها). ولا شك أن الشعور "بالاستحقاق" هذا يتعمق إذا كان المواطن ابن عائلة أو فئة معززة في البلد أو المدينة أو المؤسسة. الإشكالية هنا أن المجتمعات والأنظمة الاقتصادية الفعالة في تعظيم نسبة التوظيف والإنتاجية للمستوى الأمثل هي تلك التي تضع أصحاب المهارات والتدريب المناسب في الوظيفة المناسبة دون النظر إلى الانتماء الفئوي أو العائلي كعامل مهم في قرار التوظيف. وهذا استنتاج منطقي لا يمكن تجاوزه، فلا يمكن الحصول على فعالية اقتصادية وإنتاجية عالية دون تعظيم التوافق بين التأهيل والتوظيف، وجعله القرار الحاسم عند التعيين في وظيفة ما. وينطبق ذلك على وظائف المديرين بشكل أكبر من غيرها. قد لا يكون من العملي أن نطمح إلى إنهاء مشكلة المنسوبية والمحسوبية خلال جيل أو جيلين في مجتمعاتنا، ولكن من الممكن أن نجعل منها اعتباراً ثانوياً مقارنة بالتأهيل والكفاءة بتبني سياسات معينة. إن السياسات المطلوبة لمعالجة هذا البعد من المشكلة متعددة، وتستوجب العمل على مراحل زمنية مختلفة؛ أي من المدى القصير إلى المتوسط والطويل. على المدى الطويل، تكون المعالجة عن طريق التربية والتعليم لإحداث نقلة قيمية وثقافية. على المدى المتوسط تتطلب المعالجة توجهاً قيادياً لجعل الكفاءة العامل الأهم في تعيين القيادات دون غيره، والتوعية بذلك على المستوى الوطني والمؤسسي والأسري. أما على المدى القصير فيتطلب الأمر إيجاد برامج تدريبية على نمط برامج الخدمة الوطنية غير العسكرية المعززة لأخلاقيات العمل المهنية (كالتي أثبتت فاعليتها في ماليزيا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة مثلا)، عن طريق تزويد الشباب المتخرج في الثانوية بالمهارات المطلوبة في سوق العمل، سواء كانت فنية أم أخلاقية، وعلى رأس الأخيرة الانضباط وعدم التقاعس في بذل الجهد لإثبات الجدارة.
أما البعد الثاني المتعلق بالتوازن بين العرض والطلب في فئات الوظائف المختلفة، فإن ذلك يتطلب مبادرة مشتركة فيما بين القطاع العام والقطاع الخاص لتعريف حجم ومواصفات وفئات الموارد البشرية المطلوبة من خلال النظام التعليمي أو بالتدريب الفني والمهني والأخلاقي، ووضع الآليات والبرامج للحصول عليها. يقودنا هذا إلى طرح الاستراتيجيات المطلوبة لمعالجة البعد الثالث الخاص بالتنمية البشرية.
البعد الخاص بالتنمية البشرية يجب أن يتعدى التدريب المقترح أعلاه، ويبدأ من مستوى الروضة والحضانة إلى المراحل المدرسية المتعاقبة لتقوية القدرة على التفكير الإبداعي والمباداة والتحليل ومهارات حل المشكلات عوضا عن التلقين، والتركيز على المواد العلمية عوضا عن الأدبية.
أما البعد الرابع الخاص بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فيتطلب منظومة كاملة من السياسات والتشريعات، بدءا من التمويل وتسهيلات البحث والتطوير، مرورا بحاضنات الأعمال وأنظمة وتشريعات مرنة خاصة بالعمالة الوطنية، وانتهاء بالمرونة في أنظمة الإفلاس وإعادة الهيكلة في حال التعثر. قد يضاف إلى ذلك التركيز على سياسات اقتصادية وحوافز مالية لقطاعات أعمال معينة توجد لدى البلد فيها مزايا اقتصادية نسبية مقارنة بغيرها من البلدان مع طاقة استيعابية عالية للعمالة الوطنية.
نرى من الأبعاد أعلاه أن المشكلة أو المتلازمة الخاصة بالبطالة والعطالة تتعدى متطلبات تتعلق بإدارة الطلب على توظيف العمالة الوطنية من الشباب، من خلال نسب التوطين أو إدخال مرونة في سوق العمل عن طريق إعانة التعطل، وإن كان العنصران الأخيران مهمين، ولكن يجب أن تكون في منظومة تشمل السياسات الموصى بها أعلاه. ومع ذلك يبقى السؤال إن كانت مجتمعاتنا ومؤسساتنا قادرة على تجرع حجم التغير في الثقافة والممارسات المنطوية على السياسات أعلاه، أخذا في الحسبان تحفظنا تجاه التغيير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي