رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تنمية اقتصاد الظل

تحدثت في المقال السابق عن الضرر الذي يحصل من نماذج اقتصاد الظل المحلية على أنشطة ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة. وكان من المثري للموضوع وجود تعقيبات تؤكد أهمية استمرار بعض أشكال اقتصاد الظل، بل إن بعض هذه التعقيبات ترى الفرص في تنميته وإتاحة الفرصة له.
لا يحظى اقتصاد الظل (أو الاقتصاد الخفي) بمفهوم وتعريف محدد وثابت، ولغرض هذا الحديث نستخدم ما تعبر عنه العديد من المؤسسات الدولية بأنه الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يتم رصده ولا تسجيله ضمن البيانات الرسمية، وهذا يعني مجموعة كبيرة من الأنشطة الإيجابية والسلبية، منها القانوني وغير القانوني. أشير إلى أن استخدام مصطلحات مثل "الاقتصاد الأسود" و"الاقتصاد السفلي" يعنى به غالبا الجانب السلبي وغير القانوني من اقتصاد الظل.
تشير آخر تقديرات البنك الدولي إلى أن نسبة اقتصاد الظل في المملكة تصل إلى 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي- بعض التقديرات ترفع الرقم إلى 30 أو 40 في المائة- وعلى الرغم من صعوبة رصد مثل هذه الأنشطة لأنها وحسب تعريفها أنشطة غير مسجلة ولا تخضع للرصد المنتظم، إلا أن هناك العديد من المؤشرات التي تساعد على تقديرها مثل الحوالات الخارجية ومعدلات الاستهلاك والنظر في مكونات اقتصاد الظل ودراستها لكل قطاع على حدة.
تدور التعقيبات التي ترى ضرورة وجود بعض أشكال اقتصاد الظل حول فكرتين متباعدتين. يثار القلق في الفكرة الأولى بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة عند انقطاع الأنشطة التجارية التي تتبناها مثلا العمالة المخالفة، وهذا في الحقيقة تخوف مشروع، ويكاد ينطبق على العديد من الأنشطة المحلية من التشييد والبناء وحتى أسواق التجزئة، ولكن وجود هذا التخوف لا يعني كف يد الإصلاح والتنظيم. من الطبيعي القول إن للتصحيح نتائج إيجابية تفوق ترك المجال للفوضى والمخالفين، ولكن هذا يستلزم أن يقوم التصحيح على إيجاد بدائل واقعية وملائمة لكل نشاط يخضع للتصحيح، وهنا في نظري يقع التحدي الأكبر.
أما الفكرة الثانية التي تشدد على أهمية وجود بعض أشكال اقتصاد الظل، فهي تركز على ما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي، ولكن لا يتم رصده بالضرورة، مثل الأنشطة المباحة التي لا تكتسب صفة الأعمال التجارية الرسمية ولا يتم رصدها، ومن هذه مثلا ما يتاجر به أو يزرعه أو يصيده الهواة، وقد يشمل هذا أنشطة الأسر المنتجة كذلك، وتتسع هنا القائمة لأنشطة كثيرة قد لا تنال ما يكفي من التنظيم والدعم وربما الملاحظة كذلك. الخلاصة هنا أن محاربة اقتصاد الظل يجب أن تعتبر لوجود هذه الأنشطة المهمة، وربما يعاد تصنيفها ورصدها أو إخضاعها للحد الأدنى من التنظيم.
إذا تتبعنا طرق التعامل مع اقتصاد الظل في الدول الغربية، نجد أن عملية متابعته والسيطرة عليه تأتي من عدة محاور تتبناها الجهات الحكومية، تتجسد أهم هذه المحاور في مثلث يكفل مواجهة كل من: العمالة غير النظامية، وغسيل الأموال، إضافة إلى التهرب والتجنب الضريبي.
مصلحة الضرائب البريطانية- على سبيل المثال- تذكر في أحد تقاريرها أن التشدد والتعجل في محاربة اقتصاد الظل قد يشكل موجة من الغضب تقوض هذه الجهود. تشير أيضا إلى أن من الحكمة أن يعي ممارس النشاط غير الرسمي ملامح الفائدة والتكلفة في الخروج من هذه الممارسات، ومن واجب الجهات الحكومية أن توضح له هذه الملامح؛ وتضيف أيضا أن هؤلاء الممارسين هم في الأصل رياديون فخورون بما يقومون به؛ لذا يصعب تغيير العادات الاجتماعية التي تصاحب ممارساتهم إلا بوجود برامج تستهدف هذه الخصائص بأدوات ذكية وملائمة.
محليا، نلاحظ أن محاربة اقتصاد الظل في السنوات الأخيرة كانت بالتركيز على المحورين الأولين- العمالة غير النظامية وغسيل الأموال- مع ظهور العديد من الانتقادات الموجهة للجهود التي تقع ضمن المحور الأول. في حين تتجاهل مصلحة الزكاة والدخل حاليا الأنشطة غير المسجلة؛ مصلحة الزكاة والدخل لم تفرض سيطرتها حتى على الأعمال النظامية باعتمادها في كثير من الحالات على الربط الجزافي.
يمكن الخلوص إلى وجوب محاربة الأنشطة غير القانونية بطريقة مباشرة، وهذا قد لا يعني التخلص منها بالضرورة، بل ربما بتصحيح أوضاعها ومراعاة الآثار الناتجة من حدة وسرعة التغيير- أو بطئه- خصوصا على فرص الشباب والأسر. الأنشطة القانونية التي لا تسجل ولا ترصد بحاجة إلى المزيد من البحث والفهم؛ إن كان لها جوانب سلبية لربما وجب تنظيمها أو على الأقل حصرها وتحديد انتشارها لكيلا تتعاظم مساوئها. كل هذه الأمور تتطلب الفهم المتمكن لهذا الواقع المعقد؛ لذلك نجد أن جهود الدول المتقدمة في محاربة اقتصاد الظل تبدأ بأبحاث ميدانية معتبرة ومعلنة، تساعد على تنفيذ برامجهم المؤثرة، لا تهدم ما ينتفع به ولا تسمح في الوقت نفسه بتسرب الثروات وهدر الفرص كل يوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي