هل هناك مستقبل للأقليات في الدول العربية؟

قبل أن أدخل في خضم الموضوع أود تقديم تعريف علمي مبسط لمفهوم الأقلية.
حسبما ترد في أغلب الإعلام العربي، فإن "الأقلية" كمفهوم يقتصر معناه على الوجود العددي. الأقلية في مثل هذا الخطاب تشير عادة إلى مجموعة إثنية أو دينية أو مذهبية عددها قليل مقارنة بالأغلبية.
هذا المفهوم غير مقبول في الأروقة العلمية لأن مفهوم الأقلية لا يشير إلى العدد وحسب، الأقلية هي المجموعة من البشر بغض النظر عن العدد التي تتسلط عليها مجموعة أقوى منها وفي يدها زمام السلطة والأمر والنهي في شؤون الحياة المختلفة.
ولهذا لا يجوز أن نشير إلى البيض في جنوب إفريقيا "نحو ثلاثة ملايين" بين مجموع عشرات الملايين من السود على أنهم أقلية في زمن الفصل العنصري. في الحقيقة الإفريقيون السود كانوا أقلية والبيض هم الغالبية لأنهم هم كانوا الأعلون في كل شيء ويتعاملون من منظور عنصري فوقي على الغالبية، يسومونهم العذاب في نظام عنصري مقيت استمر قرونا ولم ينته إلا في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين.
واليوم رغم انتقال السلطة إلى الغالبية السوداء لا نستطيع أن نقول إن البيض يشكلون أقلية حسب المفهوم العلمي للمصطلح لأن السود لا ينظرون إليهم نظرة عنصرية تراهم أدنى مرتبة بل تعاملهم كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات.
وهكذا نقيس مفهوم الأقلية حيث أتى إن كان أساسه العرق أو الجنس أو الدين أو المذهب أو غيره.
والأقلية في العالمين العربي والإسلامي لا تخرج عن نطاق هذا المفهوم حيث تشمل العرق والدين والمذهب والقومية.
والأقليات في هذين العالمين مرت بفترات حالكة وفترات كثيرة زاهرة منذ بروز الرسالة ولكن كي نقطع دابر الذين يحاولون تسييس الموضوع لغايات خاصة، ومن أجل الإنصاف نقول إن حال الأقليات في الشرق وبصورة عامة إن أخذنا التاريخ معيارا كان أفضل بكثير من حال الأقليات في الغرب.
إلا أن العقود الأخيرة ولا سيما بعد الحربين العالميتين أفرزت تحولات سلبية في العالمين العربي والإسلامي صارت بموجبها مسألة العيش الكريم من حيث الحقوق والواجبات في الوطن الواحد لكثيرين من الأقليات بالمفهوم أعلاه صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة، وأخذنا نلاحظ هروبا جماعيا وبالملايين لأبناء وبنات هذه الأقليات هائمين على وجوههم داخل أوطانهم وخارجها.
وأخذت كثير من البلدان العربية والإسلامية التي كان التاريخ يشهد لها تعايشا وتعددا وفسيفساء تحسدها عليها الدنيا تخسر أقلياتها التي عاشت في كنفها لأكثر من 1400 سنة في انسجام قلّ نظيره.
هذا التعايش أعطى بعدا إنسانيا وأخلاقيا للإسلام وترجم منطلقاته وأفكاره التي في أساسها تنبذ العنف وتقبل الآخر وتؤويه وتحميه لا بل تقع بموجبها الأكثرية المسلمة بمفهوم المجموعة ذات السلطة وصاحبة الأمر والنهي تحت حكم شرعي وأخلاقي كي تحمي الأقلية وتحافظ عليها وتعمل ما بوسعها كي تزدهر وتنمو وتترعرع.
كان هذا ما يميز الإسلام في فتراته الذهبية حيث كان مشهد ومنظر المئذنة التي يراها المسافرون أو الهاربون من الظلم عن بعد إيذانا بالوصول إلى بر الأمان، وحيث الأخلاق والمساواة والإحسان والتسامح وقبول الآخر.
هربت الأقليات ومنها مجموعة كبيرة من اليهود من إبادة جماعية حقيقية بعد سقوط الأندلس إلى ديار العرب والمسلمين في المغرب وأمصار أخرى وما وقع عليهم من ظلم واضطهاد وإبادة جماعية في نحو منتصف القرن العشرين في أوروبا تقشعر له الأبدان.
كان الإسلام في تاريخه المزدهر يزدان بتعامله الحسن المتسامح النابع من الأخلاق السامية التي هي محور فكره ويجب أن تكون هكذا طوال الدهر.
ما يحدث للأقليات اليوم في العالمين العربي والإسلامي مهما كان عرقها ومذهبها ودينها وثقافتها أمر غير أخلاقي وإنساني وظلم لا يمكن قبوله وتبريره على الإطلاق وهو لا يعارض أبسط المبادئ الإنسانية فقط بل ينتهك الأخلاق الإسلامية الحميدة التي كانت ويجب أن تكون أساس أي حكم يدعي أن منهجه يستند إلى الإسلام كفكر نير.
إن خسر المسلمون أقلياتهم سيخسرون الكثير من إسلامهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي