أي نوع من التغيير نحتاج؟
المراقب للوضع التنموي في جميع الدول العربية بما فيها المملكة يلاحظ الاستقطاب في الرؤية الذي يُصور على أنه ثقافي في الأصل. فهناك خلاف واختلافات بين الطرح الديني والطرح الدنيوي - بين الأصالة والمعاصرة - يأخذ هذا الاستقطاب درجات من حدة أو هدوء تبعا لعوامل كثيرة بعضها تراكمي (استمرار التفاعل إلى أن يصل إلى درجة ما)، وبعضها تحولي (تغيير في طبيعة التواصل من خلال التقنية أو تغيير في السياسات)، وبعضها عابر (مثل حدث أو موقف ما مؤثر)، ولكن في نظري كل أنواع العوامل الثقافية تأثيرها الأهم على حراك المجتمع مبالغ فيه من ناحية ويبعدنا عن التركيز على فهم الأهم: التطور والتغيير الرأسمالي في المجتمع شاملا محركات وسلاسة ذلك التغيير بما يخدم المجتمع وليس طبقة برجوازية محدودة. النظام الرأسمالي الضيق يجلب درجة من الاستقرار ولكنه لا يحقق تنمية ونجاحا.
مراجعة سريعة للأحداث في سورية على سبيل المثال ستجد أن هناك تعاونا وتفاهما بين الطبقة البرجوازية السنية والمنظومة الأمنية الحاكمة في سورية لأسباب رأسمالية، ولعل هذا يشرح جزءا من أسباب عدم نجاح الثورة السورية على الرغم من جرائم الأسد. كذلك الحال في مصر، حيث لقي الانقلاب صدى لدى قطاعات مؤثرة وأهمها الجيش المنتفع رأسماليا. وحتى تردد حكام تركيا الإسلاميين في دعم الثورة السورية ممكن النظر إليه من هذه الزاوية. لعل عدم تعمق البعد الرأسمالي في ليبيا بسبب تشتت وفوضى سياسة القذافي مما أعاق أي تجذر لرأس المال سبب في عدم قوة النظام السابق. العراق يعطي مثالا آخر في استفحال نظام التنافع بسرعة لخلق طبقة جديدة ترسي دعائم لنظام يستطيع حماية نفسه.
من هذا المنظار لعل التاريخ العربي الحديث في إدارة الدولة ما هو إلا تجاذب بين محاولة إرساء نظام رأسمالي ولكنه مخنوق ولم يجد تجاوبا وتفاعلا صحيا من قبل قيادات النخب والبيروقراطية أو حيوية في الجهاز الحكومي كي يتطور ويتوسع أفقيا - كي تمد المصالح لأعداد أكبر تدريجيا ورأسيا - لتتمدد وتقوى سلسلة القيمة المضافة في المجتمع معرفيا وماديا. الذي يعبر عن هذا النجاح هو تفعيل رأس المال صحيا، وهذا لم يحدث في كل الدول العربية نظرا لقصر نظر النخب وأنانيتها وعدم كفاءتها. أحد مظاهر الإشكالية الفكرية والمنهجية أن القيادات العربية تعتقد أن الدعم ومزيدا من الدعم هو الحل. هذا النوع من الدعم يهدم رأس المال ولا يربيه في المدى المتوسط والبعيد.
ما الحل؟
هناك طريقتان للتغيير والتقدم، إما الطريقة الجراحية مثل دول شرق آسيا، حيث لدى الطبقة الحاكمة الشجاعة والشرعية التي تأخذ بالنظام الرأسمالي على الرغم عما تقوله من انتماء ثقافي أو أيديولوجي، ثم تعمد إلى سياسات انفراج اجتماعية وسياسية لاحقاً. دول أخرى تعمد إلى المدرسة التدرجية مثل تركيا والبرازيل وشيلي. أي من هذين النموذجين يناسب الدول العربية؟ النموذج الأول له جاذبيته لأن الوقت عامل حاسم بعد تراكم الفشل، والنموذج الثاني أكثر طبيعية وقد يكون أكثر تناسبا مع الطبيعة القبلية للعرب ولكن عامل الثقة فيه بدأ يتآكل سريعا بسبب تقاعس النخب.