غزة هي المعنى كله
غزة هاشم في حزنها البتول هذا تجعلك أمام إنسانيتك بشكل مباشر، الشهداء يدفنهم شهداء في أثرهم لا يتسع الزمان في غزة لحزن طويل، كل شيء يترقب لحظته المفارقة.. لا موت في غزة، فكل أهلها يصطفيهم الله شهداء عنده. ثمة موعد جميل ورقيق وإن تبدى في ظاهره الفجيعة والحزن الممض، إلا أنه يحمل الفرح في مكنونه يحمل الفرح بلحظة الغمرة المذيبة للحس الظاهر، والمستوعبة لنشوة الروح.
من قال إن الطريق إلى الجنة موجع على المرحومين؟ من ذا يتصور أن الرحمة بعيدة عن أطفال غزة وبقايا أسمالهم، وبقايا لعبهم وكتبهم ودفاترهم وأقلامهم؟ العبور للجنة مؤلم لنا نحن الأحياء بضمائرنا البصيرة، للضعف المذل، وللوهن المريب، وللعزلة عن واجب لا يتباعد عنه إلا عاجز أو شيطان أخرس.
أمهات غزة لهن قلوب لا كسائر الأمهات، ولهن دموع لا كسائر الدموع، ولهن عند الله جنة لا كسائر الجنان، أم تتبع بقايا وحيدها تجمعه، وأم تصغي على صدر طفلتها للنفس الأخير في حشرجة الوجع الأخير والصرخة الأخيرة والدعوة المجابة الأخيرة وهي تسلم آخر نفس من أنفاس الدنيا، قربان غزة أطفالها وقلوب أمهاتهم فما من طفل يصعد للسماء إلا وقلب أمه معه لا يرجعه، حين غادر موسى الرضيع أصبح فؤاد أمه فارغا من كل شيء غيره. مع كل غياب نمتلئ أكثر بالغائبين،
لا مسافة متاحة للخلاف مع حماس، أو للوفاق معها، لم تعد القصة سياسة، ولا لعبة محاور، لم تعد القصة نصرا لا يرغب سياسيون أن يستثمر لصالح فئة أو جماعة، القصة باتت تمثل الضمير وإنسانية الإنسان، بات القتل المجنون لعبة الشيطان، يستعمل فيه أبشع ما يمكن تصوره، وأعظم ما يرتاع لهوله الضمائر ولهذا ما عدا المسوخ البشرية والذين قلب الشيطان قلوبهم، وطمس فطرتهم، وختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة من غلالة حقد أعمى وأصم. ما عدا هؤلاء، لم يتحمل ضمير العالم هذا القدر المروع العظيم من الجرائم، سقطت إسرائيل أكثر من أي وقت مضى أمام ضمير العالم، مع كل طفل تغرق إسرائيل بما لا يمكن استردادها منه.
شخصيات فنية لا دينية، تتنازل طواعية، عن ملايين الدولارات قيمة إعلانات تجارية لصالح إسرائيل، من أجل ألا يخسر نفسه بوصفه -إنسانا- وهذه الإنسانية هي الآن في اختبار لا يجوز أن تطول مدته.
البعض يتصور أن التضحية كل أحد قادر عليها، هذا تصور ساذج مستعجل لحجم ما يتعين على النفس أن تقدمه كقربان عظيم لضميرها، أساتذة في الجامعات، إعلاميون، ساسة، أعضاء في البرلمان، رؤساء دول، وحتى فقراء بسطاء يلتقطون ثمن رغيف الخبز من عطايا العابرين.. جميعهم وحدتهم الأرواح الطاهرة الكبيرة الصائمة لله بإصرار عنيد على عدم الفطر. الكوثر والرحيق المختوم والروح والريحان وعتبات الجنة الدانية القطاف وغميرة الحب والرأفة عليهم أجمعين.
في كلمات خادم الحرمين البادية النضج والحزن والوعي أن الضمائر التي تؤجر للشيطان ستكون أول ضحاياه غدا أو بعد حين. يجب على كل إنسان أن يعرض نفسه على غزة اليوم ليتأكد من إنسانيته ومن كونه لم يتحول مسخا في الطبيعة النفسية للخنازير التي تستلذ بدماء الضحايا ويغريها بشهوة المزيد. شكرا يا خادم الحرمين كانت كلماتك جليلة جدا في يقظة الضمير لمن ألقى السمع وهو شهيد.