التآكل المؤسساتي
هناك شواهد وقرائن واضحة على تآكل المؤسسات العامة، وتناقص قدرتها على خدمة الناس على الرغم من تزايد أعداد موظفيها والاستعانة بمكاتب استشارية وارتفاع تكاليف أعمالها. هذا التقدير والحكم مختلف من الارتماء في أحضان التذمر والإحباط أو التهرب من المسؤولية الفردية أو الجمعية من خلال إسقاط عام لا يخدم الوطن، فالتآكل المؤسساتي مختلف، حيث إنه يصيب مؤسسات معينة في الحكومة إلى حد شلل عملها، ما يعطل تحديث المملكة تنمويا. السبب الرئيس لذلك يعود إلى التصلب الفكري، وتجذر المصالح الشللية والشخصية. إصلاح تلك المؤسسات يتطلب جهودا كبيرة واستثنائية بسبب قوة الخصوم وضعف همة أو دعم الجهات الراغبة في الإصلاح.
الأمثلة ليست قليلة، ولذلك سأستعرض بعضها، فمثلا نظام العمل والعمال، بدأ هذا النظام في فترة كان المواطن السعودي أكثر دورا في العمل اليدوي المباشر، كما أن النظام أتى في وقت ارتفع فيه شعار حماية العمل والعمال، ولكن كما يقال "من الحب ما قتل"، الإشكالية اليوم مختلفة، فالتحدي هو إعادة المواطن لسوق العمل وحمايته من الهجرة الاقتصادية، ولكن النظام لم يُعد لهذه التحديات. تغيرت الظروف الموضوعية ولم يتغير أصل النظام. أدت الضغوط العملية إلى محاولة الترقيع أحيانا والقفز فوق الحقائق الاقتصادية أحيانا أخرى، ولكن أثبتت الظروف أن الوصول إلى نظام يناسب المرحلة صعب، ولن يأتي باختراق في القريب العاجل. المثال الآخر الذي لا يقل صعوبة في مجال القضاء، حيث ارتبطت هذه المؤسسة المهمة بالمنظومة التشريعية الدينية، ولكن هذه أيضاً ابتعدت عن نقاط الارتكاز الأساسية في حياة الناس اليوم قضائياً، إذ إن الحياة اليوم بعدها المادي هو الطاغي- وهذه يحكمها واقع مختلف تجاريا ومعلوماتيا وتواصلا وتعليميا- مما يحتم الحاجة إلى أنظمة أكثر مرونة من الارتباط بالمؤسسة الدينية فقط. القول إن في هذا ابتعادا عن المرتكزات الشرعية والوطنية خطيئة فكرية وممارسة عملية غير ممكنة. الاعتماد على قضاة فقط من المؤسسة الدينية لم يعد يفي بالغرض. المثال الثالث في أنظمة الخدمة المدنية، فبعد ظهور مؤسسات حكومية لا تأخذ بنظام الخدمة المدنية المعتاد بدا وكأن النظام يفقد الهوية، فالقضاء له سلم خاص، والهيئات الرقابية تتنافس في تفاوضها مع هيئة الخبراء على الابتعاد عن نظام الخدمة المدنية. أصبح النظام الأساس ينطبق على الأقلية القديمة الضعيفة إداريا أو سلطويا.
النتيجة العملية أن هذه المؤسسات تآكلت وأصبح دورها تدريجيا في مدار مختلف عن حركة المجتمع اقتصاديا، والتعامل معها فقط للضرورة لمحاولة الحد من آثارها السلبية. أصبحت هذه المؤسسات خليطا من أنظمة تناسب مرحلة مختلفة ومحاولات جدية، وأحيانا نصف جدية للتعديل والترقيع دون مرجعية فكرية تنموية، ما جعل التغيرات غالبا ارتجالية ومكلفة.
حينما لا تكون التنمية الحقيقية هدفا واضحا تكون الإصلاحات اجتهادية، وتعتمد على الأشخاص، ومالهم من قوة وضعف في مجتمع أصبح أكثر تعقيدا، ولذلك يصعب نجاحها. الحل يبدأ من متابعة القيمة المضافة لعمل المجتمع لكي تصل المملكة إلى نصف ما حققته كوريا بعد عشر سنوات من الآن. التعويل على التعليم والتدريب والخطط الخمسية ودراسات استشارية عالمية مدخل دبلوماسي وغير دبلوماسي للتهرب ورفع التكلفة المجتمعية دون مردود والنتائج الأولية واضحة. الخيار واضح أم المواصلة في تآكل هذه المؤسسات وغيرها، أو تأهيل نموذج جديد على أمل الحصول على حلول ناجعة. الأرضية الفكرية للنموذج في عمود الأسبوع القادم، ثم يتبعه عناصر النموذج المقترح.