بالأمس مَن علمني؟
"هذه الأمة بخير ما دام بها صغارٌ على هذه الشاكلة".
قلت هذا لصديقي الحبيب الفائق الثقافة المعرفية "الدكتور خالد اليحيا" وهو من مسؤولي مركز الملك عبد العزيز الثقافي في الظهران – إثراء - الذي نتمنى أن يكون منارة معرفية للعالم العربي.. وكل العالم.
أما الشباب اليانعون الذي أقصدهم فهم الذين بمشروع "مسابقة اقرأ" التابع لمركز الملك عبدالعزيز. وهو برنامج يحفز على القراءة النوعية لفئة مختارة من الشبيبة، بنات وأولادا، ضمن برنامج متكامل وُضع بعناية وتخطيط دقيقين.
في الأمس استدعوني للتحدث معهم حول القراءة وتجربة قارئ. مجموعات من الفتيات والفتية لم يغادروا الربيع السابع عشر بعد. وكنت أقول لهم إن القراءة بحد ذاتها من متع الحياة وليس هناك أبدا شخص لا يقرأ إن لم يكن أميا. فالجمع قرأ شيئا أو يقرأ شيئا أو سيقرأ شيئا لا محالة.. إذن المسألة ليست القراءة، ولكن ما هي القراءة، التي تعيد صياغة أفكارنا ثم حياتنا بالكامل بنوعيات ما نقرأ، وهنا السؤال المهم والأكبر؟ ماذا تفعل بنا القراءة؟ هل القراءة التي لا تؤثر فينا عقليا وحياتيا لا تعتبر قراءة. لا، كلها من الفعل "قرأ" ولكن القراءة المعنية هي التي تملك القدرة على التأثير وإعادة بناء الأفكار والرؤى بالعقل.. وأن ترى العالم لأول مرة بطريقة جديدة وغنية ومدهشة.. هذه هي القراءة المؤثرة، وتُنهل من الكتاّب المفكرين الكبار، والباحثين، والعلماء.
أعاد صياغة ذهني للكون الكبير بحركة سُدُمِه وأجرامِهِ ونجومِهِ وثقوبه السوداء الهائلة وكتلة المادة الكونية الداكنة، العالم الكبير والمؤلف القصصي في الخيال العلمي "إيزاك عظيموف" الأمريكي من أصل سلافي روسي. أثّر فيّ عظيموف أكثر من إينشتاين أو بوهر، لأنه يقدم المادة العلمية الشائكة بنفَس القاص الملهَم، لذا كانت قصصه الخيالية العلمية الأفضل في العالم لأنه يمزج الخيالَ الواسعَ مع دقّةٍ علميةٍ عميقة؛ وهو صاحب قصة "حرب النجوم"، الذي أنتجته هوليوود فيلما فصار الأكثر شهرة وارتيادا بالعالم.. وأعيد في نسخ جديدة. وباعت القصة المنسوخة ملايين النسخ وترجم لثلاثين لغة وأثر عميقا في أجيال السبعينيات والثمانينيات، وما زال التأثيرُ جاريا.
وتطرقنا للعقل والفهم العلمي والتأملي الصوفي، فإذا الفتاة الصغيرة "أمجاد" تحيلنا إلى صاحب الفتوح المكية الصوفي الرئيس الأكبر "ابن عربي". وسميتُ الشابَ نواف بالمذهل، فمعلوماته حاضرة في الأدب والعلم والاطلاع العام، وقال عبد الله الحواس صديقي الشاب الدائم أن نواف يتقن أربع لغات، وإن لم تخني الذاكرة فهذا الشاب في تجربة القراءة في جامعة الدمام هو مَن علق على كلماتٍ آرامية استحضرتها، فإذا هو يعرف اللغة الآرامية، اللغة التي تكلم بها المسيحُ، عليه السلام.
لم تكن "آلاء" الصغيرة مرتاحة لبعض ما قلت في الأدبيات العربية فقاطعتني بأدب راقٍ إشارة للاعتراض والرغبة في التعليق، وصدحت بأفكار نقدية ومعترضة عليّّّّ في بعض ما قلت برقة التهذيب وعفوية رد الفعل الأنيق. و"مها" كان سؤالها من أكبر الأسئلة التي تطرح من أيام الرواقيين الإغريقيين، لو تدري مها أن هذا سؤالهم الأكبر: "كيف أعرف أني استفدت من القراءة بعد أن أنسى ما قرأت؟ وكان ردي هو أن أفضل استفادة من القراءة عندما نقرأ وننسى، لأنها هنا امتزجت مع عنصرنا الحي، ولم تعد قالبا محفوظا مفصولا عن العقل. و"عبد الرحمن" حذروني منه لأنه صاحب جدل ونقاش، وأسعدني هذا لأن لا معرفة دون شجاعة في السؤال والتحاور الرفيع.
النتيجة التي خرجنا بها بالأمس أن القراءة العميقة بأي شأن، خصوصا في العقائد السياسية والروحية هي لما يتوازن العقل مع نضج الوجدان.
وهذا مبحث آخر!