مقعد جدة.. وأيامنا الحلوة
نستطيع القول إن السعودية تقترب من مشروع ثقافي عالمي كبير بعد أن وافقت منظمة اليونسكو العالمية على ضم منطقة جدة التاريخية إلى قائمة التراث العالمي.
ويجب أن نعترف أننا أدرنا ظهرنا للثقافة طوال أكثر من 100 عام، بل جرّمناها وحرّمناها بغير وجه حق، بينما العالم يهيم بالثقافة ويعتبرها قوة ناعمة ترتقي بالنفوس، وتبني العلاقات الإنسانية بين الشعوب، وترسخ سلوك السلام والوئام بين كل مجتمعات الدنيا.
ولقد حان الوقت كي نمضي مع الموكب العالمي ونهتم بالثقافة لنؤكد أننا مجتمع ودولة ذات حضارة وذات ثقافة تنشد الخير دائماً لكل البشرية.
وقبل أن أعدد المزايا التي يتمتع بها المشروع الثقافي العالمي الذي يفتح أمام المملكة فرص التواصل مع التراث العالمي، فإنني أتوقف هنيهة كي أسلط الضوء على مشروع حضاري تراثي مبهر نفذه ثلاثة من الشباب السعودي وهم منصور الزامل والدكتور محمود محمد صعيدي ومازن عبد الله السقاف، وثلاثتهم يتمتعون بوطنية عالية وعشق لتراث المدن وكنوزها.
يقول الزامل إنه من هواة الآثار وإنه زار مدينة جدة ووجدها حقلا ثريا وغنيا بالتراث، وإن حقولها التراثية أشعلت في نفسه جذوة الاهتمام بتراثها، فعقد النية على أن يبني مركزاً يضم تراث هذه المدينة المغناطيسية الحالمة.
ومن أجل تجميع تراث جدة الذهبية ذهب الزامل إلى الجهات الأربع وجاب الكرة الأرضية، واستطاع أن يلتقط من كل أنحاء المسكونة قطعاً من لحم وشحم جدة التاريخية ويشتريها ويعيدها إلى جدة، ذهب إلى سراييفو ووجد قطعاً من دم وشحم جدة تباع في المزاد، فدخل المزاد وابتاعها، وذهب إلى المزادات في إستانبول، وإلى القاهرة، وإلى فيينا، ثم ذهب حتى كولومبيا، واشترى كل ما وقع بين يديه من تراث وكنوز لمدينة جدة الماسة والحساسة.
منصور الزامل يسبح في عالم التراث، ويغوص بين الحلم والواقع حتى وقف على انبهارات يجدر أن نتوقف عندها ملياً، وعن قصته مع التراث أضاف قائلاً: عدت إلى جدة بعد أن أبحرت في كل قارات الدنيا، وضاق بيتي بما حملت وجمعت من كنوز التراث الجداوي، فرأيت أن ما جمعته يكفى لبناء مركز لتراث جدة الثرية، وقررت أن أندفع إلى جدة التاريخية لأستشيرها في مشروع الحلم، وفوجئت وأنا أدلف إلى وسط المدينة أنني أقف أمام البيت الكبير "بيت نصيف"، وارتفع الإحساس لدي، لقد أحسست أن البيت الكبير يكلمني ويناجيني ويُدلع كل الأفكار التي تجول في مخيلتي، فتبادلت معه الحوار حتى أمرني أن أتخذ القرار فوراً، وساعتها شعرت بذلك اللقاء الغامر والحميم بين عبقرية المكان وعبقرية الزمان.
ومضى الزامل في حديثه الشجي يقول: وبعيداً عن أي حوار مادي قمت على الفور بتوقيع عقد إيجار المقعد المطل على بارحة نصيف، وأطلقت عليه اسم "مقعد جدة وأيامنا الحلوة".
ولقد أثار هذا الاسم جدلاً بين المثقفين وحتى بيننا نحن الثلاثة "الزامل، الصعيدي، السقاف" أصحاب المشروع، ولكن من وجهة نظري: إن الاسم يثير الأحاسيس ويدغدغ المشاعر، وأنا في كل خطواتي كنت أتحسس المشروع، وطالما أنه تعبير صادق عن كل ما يدور في خواطرنا من ضرورة أن يكون لجدة بيت ثقافي يضم شتات مدينة اتسعت آثارها باتساع الكرة الأرضية، فإن الاسم يعتبر رصيناً ومعبراً، بل موفقاً ومتفوقاً.
وهكذا بعد توقيع عقد الإيجار قررنا افتتاح المقعد، وفي يوم افتتاح المقعد تهلل كل مفصل من مفاصل جدة، واستعدت جدة الغندورة، وسَرّحت شعرها، ودهنت مكياجها، ولبست فستانها، وهيأت نفسها للمناسبة الأعظم.
وجدة كلها تغني يوم الافتتاح، وكل الناس يحضر الحفل المثير، ويغنج، ويفرح، ويتمخطر.
جدة تريد أن تقص على العالم قصة تاريخها منذ أن زُفّ آدم إلى حواء ليعلنا معاً أول فرح في الوجود، ويفتتحا به موكب الإنسانية فوق كوكب الأرض.
وإذا كانت اليونسكو قد اعترفت أن جدة التاريخية صاحبة استحقاق مشروع في قائمة التراث العالمي، فإن جدة التاريخية يجب أن تعترف بأن "مقعد جدة وأيامنا الحلوة" صاحب استحقاق في مشروع جدة التاريخية، لأن المقعد فيه شباب يستطيعون أن يحققوا لجدة التاريخية ما تحتاجه وتتمناه من مشروعية وشرعية.
إن "مقعد جدة وأيامنا الحلوة" أصبح مقصداً للزوار في المناسبات الوطنية وطيلة ليالي شهر رمضان المبارك، بل وطيلة أيام السنة، وباتت المدارس ترسل طلابها إلى المقعد ليتثقفوا من تاريخ جدة المضيئة، ويتعرفوا على تاريخها وتراثها وجمالها ونضارتها، ويطالعوا صوراً لجدة، وكتباً عن جدة، وصحفاً صدرت أول ما صدرت في جدة قبل أن تصدر في أي مدينة أخرى.
إن لليونسكو اشتراطات ومطالب حتى تحتفظ جدة التاريخية بمكانها الراسخ في قائمة التراث العالمي، و"مقعد جدة وأيامنا الحلوة" يستطيع أن يسهم في تحقيق شروط اليونسكو كي تبقى جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي إلى الأبد.
أيامنا الحلوة لن تستمر في المقعد، فقد كبرت الطموحات وتحرك الشباب للانتقال إلى بيت السلوم، بيت الثقافة في قلب حارة المظلوم، وسوف يستوعب البيت المزيد من تراث جدة الحالمة والمبهرة.
والكلام عن جدة لا ينتهي، فجدة شقية وشجية، باسلة وقوية، شاعرة وفتية، جميلة وثرية، وهي دائماً مكان للإبداع والابتكار والفرحة العارمة.