مواقف إنسانية في رمضان .. تحتاج إلى وقفات
في أيام رمضان المباركة يجدر أن نتذكر ونترحم على أخيار الناس ممن قدموا الحسنات من أوسع أبوابها، عملاً بقول رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ "من لا يشكر الناس لا يشكر الله".
والأمير عبد الله الفيصل من أولئك الأخيار الذين نعنيهم في هذه الوقفة الإنسانية الخيرة، كان الأمير ـــ يرحمه الله ـــ له وجود عريض بين الأسر في شهر رمضان، يقدم لهم يد المساعدة والعون في الستر لا في العلانية، وهو بطبيعته تواق للخير وهاب للناس، ومعروف بعطفه على الفقراء والمحتاجين، وكانت أعماله الخيرة جزء مهم من سلوكه اليومي، فهو معروف بكرمه وحبه لأعمال الخير والإحسان، وما زالت بعض الأربطة في جدة وفي مكة المكرمة تعيش على المساعدات التي يقدمها الأمير الراحل عبد الله الفيصل، بل هناك الكثير من الأسر الكريمة المحتاجة، التي ما زالت تعيش مستورة على صدقات الأمير عبد الله الفيصل، وكان الأمير الجليل يكره المن ولا يحب أن يقال عنه إنه دفع لفلان وعمل لفلان، وإنما يعطي بكل تواضع وفى صمت تام.
ومما تحمله الذاكرة من الذكريات التي كنا نشاهدها في مجلسه الخير إنه حينما سمع بأن أحد أعيان جدة يعاني أزمة معيشية حادة تحقق من ذلك وأمر بشراء بيت يسكنه وأسرته، وكان الأمير يعرف هذه الشخصية التي كانت تحمل سمعة طيبة وكانت تُصْلحِ بين الناس، بل كانت محكمة جدة ترسل إليه بعض المتخاصمين ليصلح بينهم، وكانت له أياد اجتماعية على كثير من تجار جدة، فأطرق الأمير وهو يستمع إلى القصة، وبعد قليل رفع رأسه وقال لمحمد حسين أصفهاني: اشتروا عمارة "ست شقق" في موقع ملائم له وملكوها له، واقترحوا عليه أن يسكن في شقة ويسكن ابنه في شقة وابنته في الشقة الثالثة، ثم يغل الشقق الثلاثة الأخرى كي تمثل دخلاً ثابتاً له.
وكان الشاعر محمد علي مغربي قد روى لنا أن نادي جدة الأدبي كان يزمع طبع ديوان الشاعر ضياء الدين رجب بعد أن رحل عن عالمنا، ولكن التكلفة كانت تعوق النادي، فعلم الأمير عبد الله الفيصل بالأمر فاستدعاني وأخبرني أنه متكفل بطبع الديوان كاملا على حسابه الخاص، وكان محمد حسين الأصفهاني صاحب مطابع الأصفهانى حاضرا في المجلس وتلقى الأمر بمباشرة الطبع، وفعلاً تم طبع وإخراج ديوان الشيخ ضياء الدين رجب، وحينما تم الطبع سألته عن مقدار النسخ التي يريدها من الديوان ليهديها إلى أصدقائه ومحبيه الكثيرين فقال: نسخة واحدة تكفيني.
وبعد وفاة الأديب والشاعر حمزة شحاتة ــــ يرحمه الله ــــ كان الجميع ينتظر صدور كتاب يجمع شتات شعره الغزير، وتحدث الأمير عبد الله الفيصل إلى ابنته شيرين مبديا استعداده لطبع الديوان على حسابه الخاص، وفعلاً تم جمع ديوان الشاعر حمزة شحاتة وطبعه على نفقة الأمير، أمّا ريعه فكان دخلاً حلالاً زلالاً لأسرته.
وكما كان للأمير عبد الله الفيصل أعمال جليلة في المجال الاجتماعي والثقافي فله أعمال خيرة في المجال الرياضي، ونذكر ــــ على سبيل المثال ــــ إنه في عام 1388هـ تصادف وجود الأمير عبد الله الفيصل في مستشفى الرياض المركزي لزيارة أحد أقاربه، فلاحظ الأمير ركض بعض الرياضيين وهم يحملون لاعباً إلى غرفة الأشعة.
فسأل: ماذا يجري هناك؟
فقالوا له: إن عمر حامد لاعب الشباب أصيب بكسر بليغ وأنه يدخل غرفة الأشعة لأخذ الأشعة اللازمة، ومن ثم ستجرى له عملية عاجلة.
فقال لهم: أخبروا المسؤولين في نادي الشباب بأن يعالج بأحد مستشفيات العظام في النمسا، وأنا أتكفل بمصاريف العلاج كاملة.
وبعد ساعتين وصل رئيس نادي الشباب يومذاك عبد الحميد مشخص إلى الجناح الذي كان ينزل فيه الأمير عبد الله بفندق صحارى بالقرب من مطار الرياض القديم، وقال له إن إصابة عمر حامد بليغة وإنها تستدعى بالفعل السفر للعلاج في الخارج.
فقال الأمير: وأنا حاضر، وفعلا أمر بالاتصال فورا بالنمسا ووضع جميع الترتيبات اللازمة لعلاج النجم عمر حامد، كذلك حينما نمى إلى علم الأمير عبد الله الفيصل أن عبد الرحمن ملا رئيس نادي الاتحاد الأسبق يشكو من مرض عضال، وكنت أجلس في مجلسه وأسمع الخبر، فقال الأمير باهتمام: اذهبوا به إلى الخارج للعلاج، ولكن الذي نقل الخبر صمت ولم ينبس ببنت شفة، وعرف الأمير إن عبد الرحمن ملا لا يستطيع أن يتحمل كل تكاليف العلاج في الخارج، فاستدرك الأمير قائلا: سافروا به إلى ألمانيا وسأبلغ السفارة بعمل كل الإجراءات اللازمة.
وسافر عبد الرحمن ملا وعاد سليما معافى "أو هكذا كنا نظن"، ولكن بعد أسبوعين فقط عاوده المرض، فقال له الأمير: عد إلى طبيبك في ألمانيا فوراً، وعاد الملا إلى ألمانيا، ولكن كان المرض قد استقوى، فطلب الطبيب من عبد الرحمن أن يعود إلى بلاده وينتظر رحمة السماء، وبعد أيام قلائل أسلم عبد الرحمن الملا الروح.
رحم الله الأمير عبد الله الفيصل رحمة واسعة وأسبغ عليه اللهم من شآبيب رحمتك ورضوانك في هذه الأيام المباركة، واللهم أكثر من محبي الخير وأعمال البر والإحسان حتى يخففوا عن الناس آلامهم وأحزانهم وعوزهم.