أمنية أمي الأخيرة..
لم تبتعد رغبة أمي وهي ترقد على السرير الأبيض أقصى من بلوغ شهر الله المعظم رمضان، رغبة كانت تلملمها مما استبقاه السرطان في جسدها من قوة، وما تركه فيها من عزيمة وقدرة على الإفصاح، والكشف عن المكنون، كل الذين تجرعوا هذا المرض، عاشوا الشعور الموارب الذي يغيب المرء فيه، ويحضر منه، هذا مرض يفكك العمر، ويضعف المنحنى فيه.
كثيرون جدا كانوا حولها، روت لي قصصا متقاربة، عن نزيلات، كأنهن حضرن ليروين قصصهن، ثم يفارقن الحياة بعدها، بحشرجة مكتومة، أو في غفوة لا يقظة بعدها، حتى يوم الحشر والنشر! كان جسدي يرتجف في مرات كثيرة، ويتولاني الذعر، من بكاء البنات والأطفال على جسد أمهم المفارق عن وهن وضعف وعجز غالب.
حين ذاك قالت لي وقد تسرب الحديث إلى ــــ رمضان ــــ واهب العطايا، جميل الحس، جميل التجلي بحضور الأم فيه، فهي نونه، ومركزه، فلا يكتمل جماله إلا بها.
تبدى لي من عينيها ساعتئذ ــــ لحظة العجز العظمى ــــ التي حدثتكم عنها، وتهدج صوتها، وانكسر شعاع النظرة بدمعة حائرة، وبنبرة بادية الضنى، ثقيلة الحمول، وأحزانها سوافح، وشجنها عميق قالت: أحسب نفسي لن أبلغه.. أحسبني سأمضي قبل أعتابه، ودون ليلة القدر المشتهاة فيه..!
ــــ لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو الغالب على أمره.
حين أدركنا المكنون من استبداد المرض، وانتشاره بما لا تجدي معه حيلة، ولا تنفع معه وسيلة، لم نخبرها به تفصيلا، واستسلمنا للأمر الممضي وقضاء الله وقدره، ولعل الله يحدث من سلطان قدرته ونفاذ مشيئته ما يعجز الخلق عنه، إنه ولي التدبير والقادر عليه.
وتمت لحظة العجز العظمى، وطوت عمرها كطي السجل للكتب، وتهاوى في أنفسنا ما لا عمار له العمر كله بفقدها.
إن اللهفة البادية لبلوغ رمضان، هي هذا الرجاء العظيم في رحمات الله الكريمة فيه، والمنسكبة على لياليه، وفوق أيامه، النبع السلسبيل في ليالي القدر، وتلك الليالي المتوارية فيها، والمضمونة بها. رحمة الله التي تملأ الفراغ الروحي الرتيب في العام كله، الدافعة بنورها، وجمالها، ظلمة الغفلة، مادة يديها إلى أقفال القلوب، تفتحها بابا بعد باب، وحجابا بعد حجاب، حتى يبلغ القلب، لحظة الجمع التي يبحث عنها في العمر كله مع ربه "إن إلى ربك الرجعى". "وأن إلى ربك المنتهى".
كل الأعمار التي طويت قبل شهر الرحمة، تصدمنا بالمآل المتواري في الغيب، وتثير الذعر عن الحال الذي سنمضي عليه، إلى الله! ربما كان هو رمضان الأخير.. ربما كانت هي ليلة القدر الأخيرة.. ربما كانت هي الرحمة التي ظلت ثلاثين يوما فيه.. تدعوك إليها بصلاة، أو ضراعة صادقة، أو لحظات نجوى مع ذاتك وربك.. فلم تأت.. إليها، ولم تستجب لها، حتى ارتفعت للسماء دونك.
لحظة العجز العظمى تلك، جعلتني في هذا الشعور المستريب الذي لا أملك أن أتيقنه.. هل ستكون هذه ليلة القدر الأخيرة لي؟ هل هي الفرصة الأخيرة للتعرض لرحمة الله الغامرة، لنيل هبات الله لنيل عطاياه، لنشر نفسي بسيئاتها أمامه في ليلة القدر، ثم يطويني برحمته، ويسترني بالمغفرة والرضا عني والرضوان.
لم يظل في رمضان إلا القليل من الفرص في زمانه، ولم يظل في قلبك إلا اليقين برحمة الله الجليلة التي لا تنتهي إليها عبارة ولا يحيط بها معنى..
فقط أجعل نفسك قربانا تقيا طاهرا، تقدمها إلى الله في صدق الاضطرار إليه، وطول السجود، فلا ندري ربما كانت في أنفسنا أمنية أخيرة لا نبلغها، كما كانت أمنية أمي، رحمها الله ورحم موتى المسلمين والمسلمات أجمعين. اللهم آمين يا رب العالمين.