كتّاب الرأي والسقف الممنوح من الحرية
ناقشت من قبل الكتابة الصحفية وآليات بعض الصحف في التضييق على الكُتّاب وخنق أفكارهم وسوء تفسير نواياهم وهنا أرني مضطراً إلى إعادة مناقشة مثل هذا الموضوع وإظهاره مرة أخرى، لعلنا نقتنع بأهمية زيادة سقف الحريات، فلم يعد إخفاء الحقائق يجدي، بل التعامل معها بوضوح ومصداقية ولم يعد من المقبول إرغام الكُتّاب على منهجية عتيقة وتلجيم أفواههم وإرغامهم على الكتابة وفقاً لهوى الصحيفة، فمصادر المعرفة متعددة والوصول إلى الحقيقة ميسر، فالقارئ يقارن بين ما يكتب هنا بما يكتب هناك، والفضاء أمامه واسع ينقب حتى يصل إلى الحقيقية المجدرة ويستطيع قياس مصداقية ما يقرأه بسهولة.
وقد ذكرت في مقال سابق أن القراء يختلفون في أذواقهم باختلاف الثقافة، والبيئة، والتنشئة، والديانة، والتعليم، ودرجة الحرية المتاحة. والقراء حديثو العهد بالحريات الصحفية تطربهم المقالات النقدية ويتلذذون بسماع سياط النقد وهي تلذع وإن كانت كيدية وهذا الصنف لا يحاولون قياس مصداقية ما يقرؤون لأنها تروي ما في نفوسهم. أما القراء الذين اعتادوا على درجة عالية من الحرية فتشد انتباههم المقالات التنويرية الممزوجة بالتحليل والمدعمة بالبراهين والعمق المعرفي الرزين. بعض القراء ينظرون إلى المقال من الناحية الفنية فتأسر ألبابهم الصور البلاغية والصياغات ألأدبية بغض النظر عما يحويه من معرفة وما يتضمنه من فائدة.
شريحة أخرى ترى أن المقال الخالي من العبارات الرقمية والأساليب الكمية مقال أبتر عديم الفائدة تنقصه المصداقية.
وأين كانت خلفية القارئ وتذوقه فإنه يريد منتجاً ذا مواصفات توافق هواه ويريد مقالاً يؤيد وجهة نظره ويطفئ اللهب المؤجج في دمه وإن لم يفعل فيرى أن هناك خللاً في توجه الكاتب وهنا تبدأ التصنيفات، فهذا ليبرالي وذاك علماني وهذا أجير وآخر تلميذ للمستشرقين والخامس تغريبي وهكذا. وإن وصم أحد من الكُتّاب بأي من هذه النعوت فلن يستطيع الفكاك منها ولو نزلت الملائكة من السماء تُقسم على حسن نواياه، وليس له في هذه الحالة إلا أن يندب حظه ويُرثي مصيره فما أشقى المصير.
والصحف كالقراء تختلف في رسالاتها وتوجهها، فبعضها ترى أن ملامسة الخطوط الحمراء تحدٍ ينبغي خوضه، معتقدة أن الحرية الصحفية تأخذ ولا تمنح، والكتابة في هذا النوع من الصحف أسهل بكثير من تلك التي تخشى المغامرة وتهاب المواجهة وترى أن السلوك الإنساني والسلوك التنظيمي مثاليان بطبيعتهما، فيتم تفصيل المقالات في قوالب لا تقبل التأويل تحاشياً لأي سوء فهم وعمل كهذا يقيد الكاتب ويحاصر أفكاره ويقتل إبداعه، فتظهر كتابات جامدة وكلمات صلبة لا تخاطب عقلاً ولا تلامس شعوراً. كما أن الكُتّاب في مثل هذه الصحف يفلسون سريعاً فلم يعد في أذهانهم ما يكتبون عنه مما يضطرهم إلى تسويق أنفسهم في صحف أخرى تفتح له باباً يتنفسون منه.
بعض الصحف تمنع نشر بعض المقالات، ليس لأنه ضد توجه الصحيفة، بل لأنه يخالف رأي رئيس التحرير أو من ينوب عنه أو حتى من يقيّم المقال للنشر، فيظل الكاتب يرى التوجه العام السائد في الصحيفة فيتبعه من أجل ألا يمنع مقاله من النشر.
والكتّاب في كرّهم وفرّهم بين تطلعات القراء وتوجهات الصحف يختلفون في ردات الفعل. فبعضهم يؤرق مضجعه سخط القراء ويظل إرضاؤهم شغله الشاغل ويظن أن نجاحه ككاتب مرهون برضاء القارئ. وآخرون همّهم الأول الصحيفة ولو اضطروا إلى طرق موضوعات لا يؤمنون بها طالما تقبل للنشر، فتظهر لنا مقالات مشوهة وأفكار متناقضة، وقد يغيروا (الكتّاب) ما اعتادوا عليه من قناعات وما آمنوا به من معتقدات. وبعضهم الآخر لا يراعي أهمية لا للقارئ ولا للصحيفة فإذا أحس بالضغوط من أي طرف فإنه لا يتردد في الخروج من الساحة وينكفئ على ذاته ويظل يكتب لنفسه وإن لم تكن هناك صحف تنشر له أو قارئ يقرأ أفكاره. صنف آخر يغيرون الكلم عن مواضعه فيدسون أفكارهم بين السطور فتظهر مقالاتهم أشبه بالرمزية وتظل رهينة لشريحة محددة من القراء تفهمهم ويفهمونها ويبقون على هذا الحال يستلون المتعة من الكتابة كأنهم يستلون من بين الشوك ذابل الورود.
ونريد أن نخلص فنقول من كل هذا: إن الصحافة إذا أرادت أن تمارس دورها كما يجب، فما عليها سوى التحرر قليلاً من قيودها وزيادة درجة حريتها، فالرقابة المبالغ فيها تقيد الفكر، وتقتل الإبداع، وتحدد المسار، وتهمش الصحيفة ذاتها فتظل قابعة في الظل لا يراها أحد ولا يعرف كتّابها أحد.
وأنا هنا لا أقصد حرية مطلقة، فهذا صعب المنال حتى في العالم الذي يرفع هذا الشعار فمن يجرؤ -على سبيل المثال- على الكتابة عن المحرقة اليهودية في الصحافة الغربية؟ ولكن نريد درجة معقولة من الحرية ومن الحماية تجعل الكاتب يتجرد من الخوف ويأمن على سمعته فينطلق على سجيته ويخرج أنفس ما عنده على مبدأ التصحيح والتقويم وليس التشهير والتحريض، فكيف نعرف مسيرتنا وحقيقة إنجازاتنا إن لم تُظهر عيوبها جهات خارجية كالصحافة ونحوها؟ كما أرى سن قوانين تحمى الكُتّاب من تلويث السمعة وإلصاق التهمة لمجرد مخالفته رأي الأغلبية.