رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لا ديمقراطية دون ديمقراطيين .. مثالان جديدان

من أهم شروط العملية الديمقراطية وجود أناس ديمقراطيين يعرفون أبجدياتها، ويتمسكون بأهدابها، وينافحون عن مبادئها واستمراريتها. ولعل أهم ما يجسد هذا هو أن يتقبل من يدخل العملية الهزيمة ــ إنْ لحقت به ــ بروح رياضية، فلا يزايد أو يتشبث بمواقف متطرفة، الغرض منها قلب النتائج لصالحه حتى لو أدى ذلك إلى حرب أهلية وانقسامات مجتمعية تحرق الأخضر واليابس.
وهذا المعلم من معالم الديمقراطية واشتراطاتها هو الغائب الأبرز في ديمقراطيات العالم الثالث، مع وجود استثناءات قليلة جدا بطبيعة الحال كالاستثناء الهندي. ولا نريد هنا أن نتحدث عن ديمقراطية العراق التي أفرغها المالكي من محتواها من خلال تمسكه بكرسي السلطة وإصراره على أحقيته به رغم الزخم المعارض الآخذ في الاتساع حول شخصه وسياساته الفاشلة وفساد حكومته، ولكن سنتطرق إلى المثال الأفغاني وديمقراطيته التي تتقاطع كثيرا مع الديمقراطية العراقية لجهة هيمنة العنف والابتزاز والتزوير والفساد عليهما، ناهيك عن خضوع كليهما للمحاصصات القبلية والعرقية والطائفية والعشائرية.
ولعل ما يؤكد صحة هذه المقولة ما حدث في الانتخابات الديمقراطية الأفغانية الأخيرة لانتخاب رئيس جديد للبلاد خلفا للرئيس المنتهية ولايته "حميد كارزاي". حيث لم يكد الأفغان ينسون ما شاب هذه الانتخابات من أعمال عنف وتهديد وتفجير وقطع لأصابع الأبرياء الذين ذهبوا للإدلاء بأصواتهم في مكاتب الاقتراع، حتى دخلوا في نفق مظلم بات يهدد دخول بلادهم مجددا في أتون الحروب والتقسيم. والإشارة هنا إلى صراع المرشحين الرئاسيين الرئيسيين: الدكتور أشرف غني وطبيب العيون الدكتور عبد الله عبد الله، وعدم اعتراف الأخير بالنتائج النهائية التي فوزت الأول بحجة حصول تزوير ضخم في الأرقام عبر إضافة أكثر من مليون صوت انتخابي لصالح منافسه، مما جعل غني يحصل على 56.44 في المائة من الأصوات مقابل نسبة 43.6 في المائة لعبد الله. وهذه الحجة لها مبرراتها ومن بينها أن كرزاي الذي يمسك بأدوات السلطة، وبالتالي يستطيع التدخل لتغيير النتائج هو من مؤيدي فوز أشرف غني لاعتبارات قبلية، هذا ناهيك عن أن عبد الله عبد الله حقق في الجولة الأولى من الانتخابات نسبة 46 في المائة من الأصوات مقابل 33 في المائة لمنافسه غني الخبير الاقتصادي وخريج الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة كولومبيا في نيويورك التي حصل منها على درجتي الماجستير والدكتوراه. والمؤكد أن هذا الصراع على زعامة الدولة الأفغانية المتهالكة هو الذي دفع بإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى إرسال وزير خارجيته جون كيري على وجه السرعة إلى كابول من أجل إيجاد حل لهذه المعضلة التي تهدد بتقسيم أفغانستان إلى شمال ذي غالبية طاجيكية بقيادة عبد الله عبد الله وأنصاره، وجنوب ذي غالبية بشتونية بقيادة أشرف غني وسلفه كرزاي الذي يطمح إلى لعب دور سياسي من خلف الكواليس بعد خروجه من السلطة.
المثال الثاني نستمده من إندونيسيا، صاحبة كبرى ديمقراطيات العالم الإسلامي وثالث ديمقراطيات العالم، حيث جرت فيها واحدة من أشرس انتخاباتها الرئاسية منذ سقوط ديكتاتوريتها في عام 1998. على أنه يجب أن نستدرك هنا، فنقول إنه لا يمكن وضع النموذجين الأفغاني والإندونيسي في سياق واحد، حيث لا يوجد سوى مشتركين وحيدين بينهما هما انتماؤهما إلى العالم الإسلامي وحداثتهما الزمنية. أما خلاف ذلك فالفرق شاسع، ذلك أن إندونيسيا بلاد شاسعة ذات كثافة سكانية ضخمة ومجتمع عصري متحضر تزيد فيه نسبة المتعلمين على 94 في المائة، وتتمتع بشبكات من الإعلام الحر المؤثر، بينما تقع أفغانستان ضمن أكثر الدول انغلاقا وتخلفا وأمية وتدنيا في مستويات الوعي والخدمات والحريات والأمان.
ورغم أن انتكاس الديمقراطية في إندونيسيا يبدو أمرا بعيد الاحتمال بسبب الوعي السياسى والحراك الاجتماعي وقيام النخب السياسية بتوطيد أركانها من بعد فترة انتقالية شابتها تحديات كثيرة، فإن ما أفرزته نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمر مقلق يشبه ما حدث في أفغانستان لجهة وجود مرشحين قويين كل منهما يدعي الفوز ويسوق مبررات لفوزه بالرئاسة في السنوات الخمس المقبلة ــ من 2014 إلى 2019 ــ بل ويهدد ويتوعد بإيجاد القلاقل والأزمات، ويختلف عما حدث في أفغانستان لجهة عدم انحياز الرئيس المنتهية ولايته "سوسيلو بامبانغ يودويونو" لأي من المرشحين المذكورين ودعوته لهما إلى التعقل وانتظار النتائج الرسمية النهائية بدلا من إيهام أنصارهما بالفوز وإشعال الشارع، علما بأن النتائج النهائية يتأخر ظهورها لمدة أسبوعين بسبب التكوين الجغرافي والديموغرافي للبلاد والمتجسد في 17 ألف جزيرة ما بين كبيرة وصغيرة ومتوسطة، ونحو 190 مليون نسمة يحق لهم الاقتراع.
والمعروف أن هذين المرشحين هما: حاكم جاكرتا "جوكو ويدودو" المنحدر من وسط اجتماعي متواضع والمترشح باسم الحزب الديمقراطي من أجل النضال بقيادة رئيس الجمهورية الأسبق السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري، الذي حظي بدعم الطبقات المتوسطة التي رأت فيه خير تمثيل لها، وخير من يستطيع القضاء على الفساد المستشري ومواصلة عملية ترسيخ الديمقراطية، الأمر الذي مكنه من حصد نسبة 53 في المائة من الأصوات طبقا للنتائج الأولية.
أما المرشح الثاني فهو الجنرال المتقاعد "برابويو سوبيانتو" صهر الديكتاتور السابق سوهارتو ــ زوج ابنته الوسطى "ستي هيديجانتي هيريجادي" الشهيرة باسم "كيكييت" ــ وأحد أدواته القمعية أثناء سنوات حكمه الطويلة. وهذا الأخير دخل الانتخابات تحت شعار أن إندونيسيا بحاجة إلى زعيم يحكمها بقبضة حديدية كي يعيد لها الأمن والانضباط ويحميها من الانفلات والتسيب، وأن الديمقراطية الغربية لا تصلح للتطبيق في مجتمعات العالم النامي ولا تتكيف مع أوضاع إندونيسيا الخاصة. وعلى الرغم من أن شعارات "سوبيانتو" هذه تحمل في طياتها مخاوف من العودة إلى مرحلة الاستبداد والقمع، خصوصا مع امتلاك الرجل لسجل أسود في عوالم الفساد والقمع والتزوير والترهيب واختطاف المعارضين وتعذيبهم، فإن نسبة معتبرة من الناخبين الإندونيسيين تفوق الـ 45 في المائة منحته أصواتها، وفي مقدمة هؤلاء رجال الأعمال وأصحاب الإمبراطوريات الإعلامية وبقايا الحالمين بعودة الزمن السوهارتي، إضافة إلى بعض قوى الإسلام السياسي من تلك التي أشاعت وما زالت تردد أن "ويدودو" ليس مسلما كي يقود كبرى الدول الإسلامية من حيث عدد السكان.
وهكذا نأتي إلى نتيجة مفادها بأن الديمقراطية ــ وتحديدا في شقها الانتخابي ــ باتت تهدد المجتمعات النامية بالقلاقل والانقسام والاحتراب ما بين فريقين بدلا من أن توجد الحلول لمعضلاتها الكثيرة، وذلك بسبب ضعف ثقافة التسليم بنتائج الانتخابات بروح رياضية، والانتظار لخوض جولة جديدة من التنافس في مرحلة لاحقة كما يحدث في الديمقراطيات العريقة.
إن على منظري الفكر السياسي أن يتأملوا هذه المشاهد المتكررة جيدا ويوجدوا آليات جديدة للتعامل معها لأنه ثبت أن تطبيق الديمقراطية بشكلها الغربي في بعض المجتمعات غير المؤهلة لها تدمر أكثر مما تصلح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي