المحاسبون الجدد
تضاعف عدد خريجي وخريجات المحاسبة في العقد الأخير، بل إذا قارنا مخرجات المؤسسات التعليمية في تخصص المحاسبة خلال السنوات العشرين الأخيرة، سنجد أن النسبة قد تضاعفت مئات المرات. زادت أعداد الأقسام المحاسبية وبدأ التخصص ينال اعتباره المفقود منذ سنوات طويلة لاعتبارات مرتبطة بطريقة إدارة الشؤون العامة في مؤسسات الدولة، التي تأثرت اليوم بنمو القطاع الخاص والسعودة وغيرهما من الأمور.
على الرغم من استمرار حاجة القطاعين الخاص والحكومي لهذا التخصص المهم، إلا بعض الخريجين ــ خصوصا حملة الدبلوم والفتيات ــ لا يزالون بلا وظائف. العديد من المديرين لا يفهمون أهمية الدور المحاسبي جيداً ويحصرونه في الأرقام، وكثير من الخسائر مستمرة في الحدوث لأن أحدهم لم "يحسبها" بعد كما يجب.
تقوم فكرة المحاسبة الراسخة في التعاليم الدينية والدنيوية والتطبيقات المعاصرة للحياة المنضبطة على مبدأ بسيط، يدور هذا المبدأ حول الرصد والمتابعة، حول العمل والمراجعة، حول اللحظة التي نعمل فيها على تصحيح المسار، بعد أن رصدنا واقعه متعرجا ورسمنا مستقبله صحيحا تاما. لذا، يعجز من يفتقد الفلسفة المحاسبية على المستوى الشخصي والمؤسسي عن التعلم أو التصحيح، وكلاهما مكلف وخطير.
تخسر الدول من مخزونها الأهم إذا لم تحسبه بطريقة صحيحة، وسواء كان ذلك عقولا بشرية أو نفطا أو ذهبا، بل إن سوء التقديرات "المحاسبية" يمهد للقرار الخاطئ الذي نجني به على أجيال من بعدنا. تقدمت ــ على سبيل المثال ــ اليوم المحاسبة البيئية وباتت خطوة مهمة لتقدير ما نملك وتوقع ما سيحصل له؛ استخداماتها عديدة، من تحلية مياه البحر إلى مياه جوف الأرض، وهي مهمة في التعدين والثروة السمكية، وتصل إلى ما يطير في الهواء من أتربة وأدخنة. لم تعد المحاسبة سجلا للأرباح والخسائر فقط، بل لها تفرعات وتخصصات لا تحصى يستفيد منها الفرد والمؤسسة والدولة.
المدير الذي يجهل أركان المحاسبة يخسر فرصة النمو الحقيقي والبقاء الآمن، فهو وإن ظن أن أرباحه جارية فإنه أقرب ما يكون لمن يملك قوت يومه لا أكثر، فلا احتياط ولا استراتيجية ولا تخفيض للمصاريف ولا استثمار في العقول. الفكر الذي يقوم على المحاسبة الحقيقية لا يجمع القيود والسجلات فقط، بل يكشف الأداء بأدق الصور ويوفق بين عمل اليوم واستراتيجيات الغد، يساعد على الوصول لأيام بلا حوادث، يرفع كفاءة الآلة والإنسان، ويرصد لمن يريد سجلا تاريخيا منضبطا بالكلمات والأرقام.
كان محاسبو الماضي يعملون خارج إطار هذا الفكر المحاسبي الشامل، ولكن اليوم تعددت الفرص وخرج لنا عديد من المؤسسات التي تحترم المحاسبة وتعي أدوارها المهمة، فأصبح هناك "محاسب" حقيقي يرصد ويتابع ويتعلم ويعلم، يتدرج في مهنته كبيراً للمحاسبين ومشرفا ومديرا. ويعمل في مؤسسته مراقبا داخليا وإخصائيا للتكاليف ومديرا للنقد والخزانة، حيث يزورهم جميعاً مراجع الحسابات كل عام، جلهم درسوا كتبا طبعت قبل قراءتها بعدة أشهر وليس مذكرات إرشادية منسوخة، هم زملاء في جمعيات مهنية محترمة متمرسون في التقنية الحديثة وعلى اطلاع بمختلف التطبيقات الإدارية، ويطمحون مع ذلك إلى مزيد من التعلم والعطاء.
لا أعرف من كان السبب ــ سامحه الله ــ في جعل كليات الإدارة في الماضي محطا لأنظار المتعثرين وتوقعات المحبطين، إلا أنه اليوم ــ وهذا تغير كبير ــ يبحث الآلاف من طلاب الثانوية عن تخصصات الإدارة، والمحاسبة تحديدا بإعجاب وطموح صادق. ما يحدث اليوم هو تغير ثقافي مهني لم نشهد له مثيلا، كسبت فيه الرهان "محاسبة" و"تسويق" و"موارد" لا غنى لنا عنها جميعا.
لا يزال مصير الكثيرين ــ محاسبين ومستفيدين من مهنة المحاسبة ــ مرتبطاً برؤيتنا للمحاسبين الجدد وإعدادهم الجيد، ووضعهم في المكان الصحيح واستحداث أماكنهم إن لم تستحدث بعد. ولكيلا نضطر إلى محاسبة أنفسنا غداً حول مصير خريجي المحاسبة أختم بثلاث نقاط:
أولا، لا بد من تأهيل وتجديد الثقة بخريجي دبلومات المحاسبة، وهذا يحصل بتحسين مدخلات الدبلوم وضبط مؤسساته وتقييم مخرجاتها بعد ذلك. والهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين أعلنت عن مبادرات مهمة في مجال التقييم مثل اختبار القدرات المحاسبية والشهادات المهنية الأخرى، نتمنى أن ترى النور قريبا. النقطة الثانية ترتبط باستغلال المخرجات النسائية في تخصصات المحاسبة؛ من الضروري أن تشارك مؤسسات القطاع الخاص بمزيد من الآليات المنضبطة التي تضمن استقطاب مزيد من المحاسبات على الوجه العاجل. والنقطة الثالثة، أن يتأكد كل مدير في أي مؤسسة كانت بأن لديه ما يكفي من الأدوات المحاسبية المهمة لصحة مؤسسته، والمحاسبين المؤهلين لإدارة هذه الأدوات. المحاسب الجيد في المكان السليم يغطي أضعاف تكلفته، فوجوده ربح خالص والاستثمار فيه تجارة رابحة.