كيف يمكن معالجة ترهل المنظمات؟
ناقشت في عدة مقالات سابقة ما المقصود بـ "الترهل الإداري"؟ وكيف يعمل؟ وكيف يتم الخلط بينه وبين بعض المصطلحات الإدارية الأخرى كالبيروقراطية التي تعد أحد أعراض الترهل ونتيجة طبيعية من نتائجه؟ وقد ناقشت بشيء من التفصيل الترهل من الناحية النظرية بحكم التخصص وبصفتي أحد منسوبي منظمات الأعمال، وأشعر به وأراه وهو يكتم أنفاس بعض المنظمات ويقيد حركتها ويبعدها عن تحقيق أهدافها والمحافظة على رسالتها.
وفي هذا المقال أريد أن أقدم بعض المقترحات التي قد تفيد بعض المنظمات التي أصيبت بالترهل من أجل إعادة الحركة إلى جسدها عن طريق تشذيب فروعها وتقليم أوراقها. ولكن قبل أن نذهب إلى ذلك يتعين علينا أن نعيد بعض الأفكار التي سبق أن عرضتها من قبل حتى نربط الموضوع بعضه بعضا مما يسهل علينا فهمه.
الترهل عاهة تصيب المنظمات نتيجة ضخامة حجمها الذي يؤدي إلى تفشي عدة أوبئة إدارية وتنظيمية منها انتشار الفساد بكل أنواعه، وبطء الإجراءات، وصعوبة تدفق البيانات من أعلى الهرم التنظيمي إلى قاعدته وبالعكس نتيجة طول خطوط الاتصال وصعوبة تبادل المعلومات بين الإدارات في المستوى الإداري الواحد، وكل هذا يجعل من المؤسسة الأكاديمية بطيئة الحركة ضئيلة الإنتاجية بعيدة كل البعد عن تحقيق معايير الجودة.
بعض منظماتنا تنشر إحصائيات بين الوقت والآخر توضح فيها كيف كانت قبل عشر سنوات، وكيف أصبحت الآن، باستخدام معيار ساذج وهو القفزة الهائلة في أعداد الإدارات وأعداد الموظفين والأقسام والفروع. وإنني أتساءل كيف تتحرك منظمة تضم بين جنباتها أكثر من 50 إدارة وضعف هذا العدد من الأقسام، إضافة إلى أعداد هائلة من الموظفين والمستخدمين والعمال؟ ولا أدري ما الحكمة من نشر تلك الإحصائيات؟
ومن نتائج الترهل أيضا انتشار البيروقراطية البغيضة والعيش في نظام مغلق لا يؤثر ولا يتأثر بالمجتمع، فالمنظمات المترهلة تتحاشى فتح نافذة على المجتمع لأنها تخشى من كشف سوأتها، فتلجأ إلى الوحدة والانكفاء على الذات. ومن مشاكل الترهل صعوبة الرقابة، فالقيادات في المنظمات المترهلة لا تستطيع أن تضبط سير الأعمال، وقد ترى الفساد يستشري في جسدها دون أن تستطيع تحريك ساكن، فتغض الطرف عن كثير من الانحرافات الإدارية، والمالية بخلاف المنظمات المشذبة والرشيقة التي تمتلك القدرة على كشف الانحراف من بدايته بل قد تتنبأ به قبل حدوثه. ومن أبرز مشاكل الترهل محاربة التغيير، وتكون التكتلات غير الرسمية التي يفضل تسميتها في أدبيات إدارة الأعمال بالتنظيمات غير الرسمية، وقد تفوق سطوتها التنظيمات الرسمية، فتؤثر في أغلبية القرارات، ومنها القرارات الاستراتيجية التي تصنع في قمة الهرم. وعندما تنتشر مثل هذه الأمراض في المنظمات فستتحول بعد وقت إلى أعراف وقيم تنظيمية ومن ثم تكون أحد أبرز مكونات الثقافة التنظيمية، وعندها لن تستطيع القيادات تفكيكها لأن المكونات الثقافية للمنظمات تشابه إلى حد كبير المكونات الثقافية للمجتمعات، فلا يمكن التخلص منها بسهولة لأنها تكونت خلال فترة طويلة نسبيا، وتحتاج إلى نفس المدة لتفكيكها.
ولكن كيف نخلص المنظمات المترهلة من هذا الداء ونعيد الحركة والرشاقة إلى جسدها؟ هناك عدة سياسات لتخليص المنظمات من الترهل، منها رقابة مسيرة المنظمات وتقييمها بين الوقت والآخر، وألا نتركها تدير نفسها بنفسها، وإذا ثبت إصابتها بالترهل فيجب إعادة هيكلتها بعدة طرق منها السعي إلى تقسيمها إلى منظمتين منفصلتين (بعض منظماتنا يمكن تقسيمها إلى خمس منظمات منفصلة). فإضافة إلى أن هذا التقسيم يخلص المنظمات من الترهل، فهو في نفس الوقت يقدم مزيدا من الخدمات لشريحة أخرى من المستفيدين من خدماتها يصعب عليهم الحصول على الخدمة نتيجة صعوبة الانتقال إلى المناطق الأخرى. كما أن هذا التقسيم يشعل التنافس بين المنظمات في الأقاليم المختلفة، والأهم من ذلك أنه يخدم المنظمة الأم فيجعلها خفيفة رشيقة فقد تخلصت من جزء كبير من حملها فيمكنها الانطلاق بسرعة ومعرفة ما يدور بداخلها. وأهم ميزة عند تقسيم المنظمات المترهلة تحريك المياه الراكدة وقتل التكتلات التي أفرزها الترهل كالفئوية والقبلية.
كما ينبغي عند تعيين مديري المنظمات المنقسمة أن يكونوا من خارج المنظمة الأم حتى لا ينقلوا العدوى إلى المنظمات الوليدة فتصبح صورة من المنظمة الأم. وينبغي إعداد قائمة بالقياديين والموظفين مع تقدير للكفاءة من عدة مصادر، ومن ثم توزيعهم على المنظمات المنقسمة بصورة عادلة. فتتمثل العدالة هنا في توزيع الكفاءات بين المنظمات وليس الموظفين وألا يكون نقل القيادي أو الموظف إلى المنظمة المنقسمة بسبب قربه من عائلته أو قبيلته أو لمصلحة يقضيها بل لمنفعة المنظمة الجديدة.
كما يجب التخلص من خطط اللعب القديم بإيقاف التوسع العشوائي للإدارات داخل المنظمات الجديدة بعد التقسيم، وأن يكون هناك سقف أعلى لعدد الإدارات والأقسام والوحدات، كما يجب نشر الوعي بين القيادات بأن الجودة لا تعني زيادة أعداد الإدارات والأقسام والموظفين وزخرفة البنية التحتية من مبان ونحوه ذلك، بل الظفر بالمعايير الدولية والإقليمية وتطوير جودة المخرجات.
هذه بعض المقترحات لمعالجة الترهل في المنظمات بغض النظر عن النشاط والخدمة التي تؤديها، وهناك آليات للتخلص من الترهل في المنظمات حسب نوعية نشاطها، إلا أنها تحتاج إلى تفصيل لعلنا نناقشه في مناسبات قادمة - إن شاء الله.