ناصر: الطموح وعربة النيران
الطموح عند كثيرين شيءٌ غير مرغوب فيه.. ربما اتفق معهم، وهنا عندما أتفق معهم، أصبح مثل ملايين من الناس الذين يكتفون أن يذهبوا كل يوم لأعمالهم ثم يعودون، أو مدارسهم ثم يعودون، أو إلى مكاتبهم ثم يعودون.. والحياة تمضي رخية روتينية من غير مفاجآت. ولكن..
ولكنها حياة جامدة مملة وليس بها أي تقدم أو إنجاز أو إن حصل ذلك فمثل القطرات القليلة التي تتسرب من صنبور مياه مقفل وتتسلل القطراتُ تسللا. ومن جهة ثانية، الطموحُ يقلق، يأكل القلبَ، ويخضّ النفسَ، ويدوّخ الذهن، ويجعل الحياة مضطرمةً وكأن الإنسانَ يعيش على سطح بركان، لذا فإن الطموح يسوق صاحبهُ عبر النيران، وكأنه عربة النصر التي ترويها الأساطير الاسكندنافية التي تخوض النيران وتخرج من وهيجها إلى سؤدد النصر. إن قدر الطموحين ألا يهدأوا حتى يصلوا لما يبغون، مهما كان الثمن، مهما كانت الطموحات.
كنا على فطور حينما روى لي صديقي ماجد عن شخص هو بالفعل من راكبي عربة النيران، من الذين تشتعل في صدورهم حمم الطموح فلا هم يهدأون إن لم يعبروا طريق النيران للوصول لأهدافهم وحلم حياتهم.
أترك ماجداً يروي القصة..
كنتُ طالبا في أحد أقسام العلوم الإنسانية في جامعة الملك فيصل، وكنت أخط مساراً أبغيه وأريده. وتعرفت على زميلٍ اسمه ناصر - الاسم مستعار بطلب من صاحبه - وأمّا لِمَ تعرفتُ على هذا الزميل بالذات؟ فهو حالته النفسية، فقد كان واضحا أننا كلنا بالفصل في وادٍ وهو بذهنه يجول في وادٍ آخر. سألته لماذا يا ناصر كل هذا التهاون والانزعاج؟ فرد علي: "إني لستُ في مكاني يا ماجد، أنا لا أنتمي لهذا العلم ولا أريده، وما قادني إليه إلا التقسيم والتوزيع الجامعي، فقد كان حلمي أن أصبح طبيبا، ولم يقبلوني في كلية الطب. فرددتُ عليه: "خلاص يا ناصر هذا ما كُتب لك، واستمر فيه واجتهد وانجح وشق طريقك بالحياة بشهادة هذا التخصص". إلا أن ناصرا نظر إليّ وعيناه تشتعلان، وبصوت ملؤه الإنكار والتصميم ردّ قائلا: "لا يا ماجد، لن أقبل هذا، أنا خلقت كي أكون طبيبا.. بل أنا طبيب، وكل ما علي أن أسعى لأكون ذاك الطبيب".
لم يكمل ناصر معنا السنة الدراسية، واختفى، ولكنه لم يغب عن ذاكرتي أبدا، فلن أنسى تلك العينين المتوقدتين طموحا. إلا أن السنين مرت، ومع غطاء الزمن بهتت ذاكرتي بما يخص زميلي ناصر، وتوظفت، وارتقيت، وتزوجت، وصار لي عائلة.
في يومٍ من الأيام قريب فقط من أقل من ستة شهور مرض طفلي الصغير، وأشير علي أن أذهب لطبيب أشتهر عنه براعته في علاج الأطفال. وذهبت. دخلت عند الطبيب وعرفته في الحال، إنه ناصر.. ناصر زميلي بالتأكيد ولا أحد غيره. لم يعرفني فقد تغير عني تماما بعد سنين طوال، ثم نجحت في تنشيط استحضار ذاكرته، وقلت له: أخبرني ما الذي حصل لك وكيف وصلت لمبتغاك، وكان ذلك وقتها يبدو مستحيلا؟
لمّا روى لي القصة.. لم تكد عيناي أن ترمشا عجبا، وكأني أقرأ في كتاب من قصص الملاحم.
نكمل معكم بإذن الله يوم الإثنين القادم.