حرب الجمعيات الخيرية
ما الواقع المحلي للمنافسة على العمل الخيري، بين الجمعيات الخيرية تحديداً؟ وهل هذا الواقع إيجابي أم سلبي؟ أشير أولاً إلى ثلاثة ملامح مهمة. يعد التنافس على فعل الخير أمراً محموداً لدوره في التحفيز وتحسين النتائج، وهذا بالطبع لا يقتصر على الأفراد فقط إذ نستطيع جره على الجمعيات الخيرية كذلك. وبما أن التنافس يحدث على الشريحة السوقية نفسها أو سعياً لزيادة حجم هذه الشريحة، فالجمعيات الخيرية قد تنافس غيرها للحصول على العطاء الفردي نفسه - أي عدة جمعيات تتنافس للحصول على التبرع نفسه - أو تتنافس على زيادة العطاء بوسائل مبتكرة مثلاً. ثالثاً، النظر في نماذج العمل الخيري الحديثة مثل الريادة الاجتماعية يجعلنا نتوسع إلى محاور جديدة لصنع القيمة وزيادة عمل الخير، ربما بمنافسة الأعمال الربحية على حصصها السوقية.
من الواضح تطور سوق العمل الخيري في السنوات الأخيرة، ولكن معظم هذا التطور هو تطور ضخ وتأسيس والقليل منه يمثل تغيرا في أسلوب العمل أو شكل الوجود. يرافق هذا التطور النمو المحلي للثروات الفردية الذي يُتوقع استمراره كما تشير بعض التقارير. من سمات الوضع الحالي أن العديد من الشركات العائلية والأسر الثرية تؤسس الجمعيات الخيرية ككيان فرعي يدير أعمالها الخيرية، وهذا يعني أن المنافسة في العمل الخيري قد تكون امتدادا لمنافسة قائمة وتقليدية خصوصاً على المستوى الجغرافي والمناطقي.
هناك اتهامات صريحة كذلك بأن بعض البرامج الخيرية من لزوم "برستيج" هؤلاء الأثرياء وهذا يعني غياب أكيد للقيمة المنشودة، لأن الداعمين والقائمين على هذه الأعمال يبحثون عن الحضور الإعلامي ولا يمانعون في إشعال حرب تنافسية خاسرة تضمن وجودهم وحضورهم. لا أعتقد بأن هذا النوع من الاتهامات يدخل ضمن النقد الملائم خصوصاً في غياب الإفصاح وآليات تقييم المؤسسات الخيرية؛ فقط عندما تتوافر المعلومة يمكن تقييم فاعلية وقيمة هذه الأعمال بطرق أكثر موضوعية.
واقع المنافسة في العمل الخيري ينشط بثلاثة أنواع من الأعمال: عشوائية يقوم بها الأفراد - وعلى الرغم من ذلك بعضها جوهري ومؤثر - وعشوائية ومُنَظَمة تقوم بها الجمعيات الخيرية، وجزء منظم يحظى بتغطية إعلامية مؤثرة تقوم به الأوقاف الأهلية الكبرى والجمعيات الخيرية وبعض برامج المسؤولية الاجتماعية. جميع هذه الأعمال تفتقد للرصد والإفصاح الدوري ولا تقيّم غالباً إلا من قبل المستفيد ومقدم العمل بطريقة خاصة لا يمكن رصدها ولا التعلم منها.
لا أعتقد أن هناك حربا تنافسية شرسة في سوق العمل الخيري، إلا أن صور التنافس السلبي موجودة. على سبيل المثال، تركز العديد من الجمعيات على برامج مكررة لا تمثل اهتمامها الأساسي حسب هويتها المعلنة. تقوم بعض الجمعيات الأخرى بتضييع فرصة الابتكار واستغلال مواردها بتركيز جهودها على برامج تقليدية مثل "إفطار صائم" مع وجود العديد من الفرص التي يمكن عن طريقها فهم السوق بشكل أفضل والاستجابة لحاجات المستفيدين الحقيقية.
يختلف دور المنافسة في القطاع الخيري عن القطاع الربحي إذ يتحول الهدف الأساسي من تحقيق الأرباح إلى جمع المزيد من التبرعات، وفي الوقت نفسه تزداد في القطاع الخيري أهمية الأدوار الثانوية للمنافسة مثل التعلم والتطوير وتأسيس التحالفات والوصول الأسرع للمستفيد.
تشير بعض الدراسات إلى أن المبالغة في التنافس على جمع التبرعات تنتهي بالخسارة. وذلك لأن التنافس هنا يرفع من التكاليف التسويقية المصاحبة لجمع التبرعات، حيث تتكبد الجمعيات الخيرية تكاليف أكبر للحصول على الحصة نفسها من المجتمع، ما يعني نقصان صافي التبرعات الذي يعاد توزيعه في النهاية. حلول هذه المشكلة تكمن في الابتكار وتحسين معالجة التبرعات إضافة إلى المنافسة على زيادتها وليس مجرد الحصول عليها فقط.
يؤثر على هذا المشهد غياب المنظم المؤثر في سوق العمل الخيري، وهو غياب لا يحصر فقط في الرقابة والإشراف، بل حتى في توفير المعلومات ومشاركتها بين الجمعيات الخيرية ونشر التقارير الدورية كمؤشرات التبرعات وأعداد المستفيدين. من الأدوار المفقودة كذلك تبادل الحالات العملية والتجارب وشبكات التواصل والدعم الفني.
أشير إلى أن المكاتب الاستشارية في حاجة إلى التمكين والدعم الفني والمعرفي حتى تتمكن من خدمة القطاع الخيري بشكل أفضل، ولربما نرى في القريب العاجل برامج للدعم الفني المشترك تستفيد منها الجمعيات تسويقياً ومالياً وإداريا. مثل هذه الأمور هي ما يساعد على تهيئة مقدمي الخدمات الخيرية للمنافسة الإيجابية والحد من المنافسة السلبية التي تدمر القطاع.