رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


سليم (1)

رمضانيات - 2

في ساحةٍ كبيرة وجميلة بضاحية "مكاتي" من أعمال ما نيلا، يكون المساءُ احتفالا للسامرين. كان الجو مريحاً والهواء عليلا بعد فاصل مطرٍ نهاري مستمر أضاف لمعاناً على الرخام، وبريقاً عميقاً على الأسفلت الأسود بالطريق.. والناس غادين رائحين، وزبائن المقاهي ذات الطابع الرصيفي الأوروبي متناثرون في طاولات فوقها المظلات الحامية وينغمسون في أحاديث خافتة تحت إضاءاتٍ هافتة تأتي من شموع مصفوفة فاصلة، وقناديل معلقة ترسل نوراً شحيحا يملأ المكان بسيلٍ ضوئي بعيدٍ حالم.
كنتُ على موعدٍ مع أحد شباب "رابطة العودة للجذور" الذي أخبرتني أخته أنه زاغ عن الطريق ليعمل راقصاً وممثلاً في أفلام الدرجة الثالثة في الصناعة السينمائية الفلبينية.. فجأة أشار الفتى لرجلٍ كبير في السن تجاوز الـ 80، بحجم هائل، وجمجمة كبيرة لافتة يعلوها شعرٌ ثلجي كثيف، ويستعرض ظهرُهُ كلما تدرج للخلف، ويجلس على كرسي صغير يفيض لحمه منه في الجهتين، وكان نائما بعمق ورأسه يتدلى على صدره وفي فمه سيجار غليظ كأنه ملصوق بشفته الكبيرة المتدلية. وقال الفتى إن هذا الرجل اسمه سليم - الاسم مستعار - من أصل شرق أوسطي، وإنه من كبار رجال الأعمال في المدينة وسبق للفتى أن عمل بإحدى شركاته، وأن كل من في مكانتي يعلمون أنه يأتي يوميا هنا.. وينام بهذه الطريقة.
لم تفلح للأسف الشديد محاولاتي مع فتانا الذي أشرَفتْ عليه الرابطة من المتوسطة حتى سنته النهائية الجامعية التي لم يكملها، وقال إنه لم يعد يهتم بأي شيءٍ إلا الشهرةَ والمال.. وطلب مني عدم الاتصال به مرة أخرى. رغم حزني وضيقي بأني فقدت أحد أبنائي من الرابطة، إلا أن سليم أمامي يثير كل فضولي.
فجأة استيقظ سليم وفي الوقت ذاته رفعت عيني من قراءة مجهدة في كتابٍ لضعف النور، والتقت عينانا، وألقى علي السلام بالعربية ورددت السلام، ثم إنه طلب الاقتراب بطاولته، وبدأنا حديثا عاديا ثم أخبرني أنه سبق أن رآني في حفل دبلوماسي، وسألت سليما إن كان أصله شاميا، فأجاب بأنه من طرابلس في لبنان. سليم يتحدث بالإنجليزية فلا يعرف من العربية إلا كلماتٍ قليلة لا تقيم جُملة. قاد الحديث عن قصته ووصول أبيه من لبنان للفلبين في عام 1920 بباخرة، وكان قاصدا سيدني في أستراليا، فطاب له المقام بالفلبين الخضراء الجميلة، ثم تزوج وأنجب سليما.. وتوسعت أعمال الأب بالقماش ثم بصناعة الملابس، ولما توفي الأب طور سليم رغم عمره الصغير حينذاك العملَ لمصانعٍ تصدر الملابسَ للعالم.
ثم إن سليماً الفتى اليافع وقع في حبّ امرأة من عائلة إسبانية تعيش بالفلبين من مئات السنين أيام استعمار إسبانيا للفلبين، وتبع هذه المرأة في كل مكان من غير أن يصرح لها، واستغرب أنها لا تحاكي أحدا من الرجال فقد كانت كاثوليكية متمسكة.. ترك سليم أعماله مع من يديرها وتفرغ لملاحقة المرأة التي سلبت لبه، وأخذت عقله، واقتحمت عقله كإعصار باسفيكي.. وكان سليم وسيما متورد البشرة غليظ الشعر الأسود اللامع المصفف للوراء في الستينيات، والبنت أعجبت بسليم بعد محاولاته الحثيثة..
وارتكب سليم أكبر غلطاته، ادّعى أنه كاثوليكي، وقبلت به زوجا، وتزوجا في كنيسة الرب الكاثوليكية، ثم عصفتْ الأحداثُ بسليم..
أتابع معكم بإذن الله يوم الإثنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي